في يوم السبت 2005/4/16، فتحت المذياع قبل الساعة الثامنة مساءً بِدَقائق لأستمع إلى نشرة الأخبار، من الإذاعة الوطنية بالرباط.. كان آخر كلمات استمعت إليها قبل نشرة الأخبار، كلمات من البرنامج اليومي الذي يقدم في العادة قبل هذه النشرة، وفي معنى هذه الكلمات ما يلي :
>… تأخذ طاكسي في الليل للبحث عن أدوية تهدِّئ من قلقك، فإذا بصاحب الطاكسي يسمعك شريطا لإمامٍ مصري، “يهرِّس” رأسك بالحديث عن عذاب القبر، وعن العذاب الذي ينتظر المرأة المتبرجة التي لا تغطي شعر رأسها<.
هذه هي المعاني التي تحدث عنها صاحب البرنامج في آخر حديثه، ولقد حاولت أن أنقل معظم الألفاظ التي استعملها بالنص… لم أستمع لما قاله في بداية برنامجه، لكن آخر حديثه ينطق عن سخرية بما يقدم في دروس الوعظ، وعن استهزاءٍ بقيم الدين وتعاليمه وتشريعاته… حيث أن الحديث عن دروس الوعظ، عن العذاب وعن العقاب لم يعد مقبولاً لَدَى هؤلاء، ولو أمكنهم لمَحَوا العديد من آيات القرآن الكريم وسوره، بل ربما محوه كاملاً حتى لا “يهرِّس” رأسهم بالحديث عن العقاب، وعن نيران جهنم وامتلائها بالمجرمين، وعن السلاسل والقيود، وعن الطعام الضريع، والماء الحميم، لأن هذا كلّه “يهرس الرؤوس”، وينغص المُتع ويفسد الحياة على أصحابها، هذا وغيره ينطقون بمثل هذا السفه دون حياء من الله تعالى أو خوف منه، ودون أن يشعروا بحرج من طعنهم في مشاعر الشعب المغربي المسلم، ودون توقع لأي رقابة تحمي عقيدة الإسلام من عبث العابثين، وإفساد المفسدين، ممن يحملون أسماءنا، ويتكلمون لغتنا.
استمعت إلى هذه الكلمات الطاعنة في عقيدة الاسلام وبالذات في أحاديث الرسول المصطفى ، التي ورَدَ فيها ما يشير إليه صاحب البرنامج، الذي لم يتردد في أن يلمح إلى أن المغاربة لا علاقة لهم بالإسلام فهو دخيل عليهم لأن الواعظ واعظ مصري وليس مغربيا..
استمعت إلى هذه الكلمات فتذكرت أني حينما كنت أتردد على الجامعات الفرنسية في أواخر القرن الميلادي الماضي، كانت عدد من الساحات داخل الجامعة أو بجوارِها تعج بالمعروضات تارة بقصد البيع، وتارة أخرى بقصد التعريف والإشهار، ومن المعروضات التي كانت تلفت الانتباه في أغلبية هذه الجامعات، معروضات تتعلق بالدعاية للمسيحية، حيث إن الزائر أو المار بمجرد ما يقف أمام المعرض -وهو يكون على الرصيف في الغالب-، يجد من يرحب به، بكامل البشاشة، وبمطلق الطلاقة، وأحيانا بلغته الخاصة، يرحب به ويحدثه عن المسيح عليه السلام، وكيف أنهم يعتقدون بأنه جاء مخلصا للبشرية، وكيف أنه “صُلب” -حسب تعاليمهم- من أجل هذه البشرية، إلى آخر ما كانوا يقولونه، ومازالوا يقولونه حتى الآن، لكن في عُقر دارنا وبين أهلينا وذوينا، على امتداد البلاد الاسلامية…!! قلت يقولون ذلك ويرددونه دون كللأو ملل، ودون أن يقول لهم أي ناقد اجتماعي أو ملحد مادي، أو مثقف علماني إنكم “تخرفون” أو إنكم “رجعيون”، أو يحملون عليهم حملة إعلامية، في الجرائد أو في وسائل الاعلام السمعية أو البصرية، لقد كان جلهم شباباً يزوروننا في بيوتنا بغرف الحي الجامعي، ويوزعون علينا الأشرطة والكتب على اختلاف موضوعاتها وأحجامها وأشكالها، بل إن لديهم إذاعات صوتية ومرئية تلتقط في كل مكان في العالم، دون أن نسمع كلاما من أمثال صاحب الكلام السابق بأنهم “يهرسون” رؤوسنا بالحديث عن “الصلب” و”الخلاص” وغير ذلك. أذكر أيضا أني حينما كنت أسْتقل الحافلة الرابطة بين مدينة (مرسيليا) ومدينة (إيكس آن بروفانس)، كان أحد سائقي هذه الحافلات يعرضون أشرطة عن المسيح وعن كثير من المعتقدات الدينية عن النصارى، ولم أسمع قط من أحدهم كلمة قدح أو شتم في حق المسيحية أو في حق الدعاة إليها.
لا بل هناك ما هو أكثر من هذا، فالسياسة الأمريكية الحالية قائمة على مبادئ الدين المسيحي، ولاحظنا كيف تدخلت الكنيسة في روما في عدد من القضايا الدولية، وكيف تدخلت الكنيسة بشكل فظيع في القضايا السياسية في لبنان، ولم ينتقد أحد هذه السياسة الدينية للكنيسة، فيقول : دعوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر. ولم يقل إنهم “يهرسون” رؤوس المشتغلين بالسياسة إنهم يحترمون دينهم ويقدرونه، ونهدِّم ديننا بأيدينا، ولا أحد يأخذ على أيدي هؤلاء المهدِّمين والمخرّبين.
د.عبد الرحيم بلحاج