رجل القراءات القرآنية
… كان رحمه الله يحفظ بدقة، وكان في بعض المرات يحكي بعض الترانيم وبعض الأهازيج، وبعض ما ينشده الطلبة، وأذكر أنه كان يحكي لنا أنشودة الطلبة حينما يعودون إلى الدراسة، بعد العطلة فيقول :
يوم الخميس سرحنا ومرحنا
ويوم السبت شيخنا سلخنا..
وكان يتحدث عن الأطفال وهم يقرؤون، وكان يتحدث عن قرية توتي، كنا نربط بين قرية توتي وقول الله تعالى {توتي أكلها كل حين بإذن ربها} إلى غير ذلك. وكان متقنا للقراءات القرآنية، وكان إذا وجه هذه القراءات، فعلا لم يكن الناس يشعرون بأنهم أمام أضغاث من القراءات، إذ يتقن القراءات ويقرأ بالدوري ويعي جيدا ويحفظ القرآن حفظا جيدا ويحفظه بالقراءات المتعددة.
هذا وجه من وجوهه الذي ربما يغيب، ولكني فضلت أن أثيره.
رجل اللغة الذي ركب البحر :
كان أيضا رجلا من أهل اللغة، وأقول إنه آخر من كان يقرأ كتاب سيبويه، وقفت على هذا، وكان يتحدث في بعض المرات على السجية، ويطلق لسانه بالقول فيتحدث عن سبويه، لكن حينما شُرفت به مناقشا لي في دبلوم الدراسات العليا حول نظرية العامل، أخذ البحث كمنطلق ثم سرح، بحيث تجلى بأن الرجل يحسن ويتقن وكأنه ينظر في كتاب سيبويه ويعرفه بابا بابا، ويوجه الأقوال، ويذكر الشواهد بحيث كان من قلائل من رأيت من علمائنا المهتمين بسيبويه (سيبويه تعرفون أنه كان يسمى البحر، وكان يقال لمن كان بصدد قراءة هذا الكتاب هل ركبت البحر، فإن قال نعم، فمعنى هذا أنه اجتاز القنطرة).
وكتاب سيبويه كتاب ـ يكفي أن يسمى الكتاب بإطلاق، فإذا قيل الكتاب فالمراد به كتاب سيبويه إطلاقا.
الدكتور عبد الله الطيب كان ملما به ويعرفه معرفة عميقة، وكنت أظن أنه من آخر من يقرأ كتاب سيبويه، على الأقل ممن لقيت من العلماء، وكنت أعرف أن الشيخ عبد الخالق عظيم رجل يقرأ كتاب سيبويه، كنت بحثت عنه مرة في السعودية ووجدت أنه توفي في تلك السنة التي بحثت عنه فيها، ولم أتمكن من رؤيته، وأحسبه من هذا الطراز، ولكن الدكتور عبد الله الطيب من هذا القبيل كذلك.
عبد الله الطيب حينما وفد إلى المغرب، مع تضلعه وتعمقه وتمكنه من القرآن واللغة العربية، يكفي أن يكون من الكبار كالدكتور طه حسين من أقر له بهذا الفضل وسجل ذلك وكتبه، وصار كتابه المرشد إلى فهم أشعار العرب لا يستغني عنه مثقفونا ودارسوا الشعر إلا من أراد أن يجحد، وحديثه في العروض طبعا. وحديثه أيضا في الشعر الذي لا عروض له وقف عنده وقوفا طويلا، كان موسوعة، هو كتاب في الحقيقة موسوعة.
محسوب على الثقافة الاسلامية بارع في الثقافة الانجليزية :
لكن حينما جاء إلى المغرب، أول ما جاء، قام بتدريس اللغة الانجليزية، وهو إنسان محسوب على الثقافة الاسلامية والثقافة العربية ومع ذلك كان يدرس طلبة اللغة الانجليزية، ووجدنا التحول لدى طلبة الشعبة الانجليزية والإعجاب الكبير لأنه كان يدرسهم حديث أم زرع، لأول مرة يدرس رجل من الثقافة الاسلامية في الشعبة الانجليزية، يدرسهم حديث أم زرع جامعا بين الثقافة العربية وبين ما يعرفه في الأدب الانجليزي، فكان شيئا رائعا وكان الشباب حينئذ في كلية الآداب بفاس معجبين به كظاهرة جديدة ظهرت في الجامعة المغربية.
عبد الله الطيب المفسر :
أيضا في باب التفسير، استطاع أن يربط بين الحقائق القرآنية وبعض ما يتوارثه الشعوب ويتحدثون عنه، وأذكر أنه وقف طويلا في أحد الدروس الحسنية عند قوله تعالى {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم} وتحدث عن “بنيلوط” وهذه القصة المشهورة في الأدب اليوناني، وحلق بكثير من الناس الذين لم يكونوا يستطيعون أن يتابعوا ما يجري أو ما يتحدث به الأدباء في الثقافة اليونانية، رابطا بينتلك وبين اللغة العربية.
دائرة معارف متنقلة :
قلت إن لهذا الشخص إسهامات عديدة وحضورا قويا، وربما يكون إخواننا بفاس قد حظوا بالاستماع إليه، والاتصال به، لأنه كان دائرة معارف، وكان مرجعا، وكان كذلك مما أكرمه الله به أنه كان رجلا متواصلا، لم يكن منقبضاًولا متعاليا، ولم يكن رجلا يحس بأنه فوق الناس، بل كان الذين يزورونه يجدون فيه من دماثة الخلق ما يجعلهم يقتربون منه.
أذكر أنني عندما كنت أحضر رسالة الدكتوراة، أرسلت إليه رسالة فيها مجموعة أسئلة في قضايا من الشعر والأدب، وفي الحقيقة أجابني عنها -الرسالة ربما لا زالت عندي- وعن أشياء ضبطها واشياء ذكر لي أنه لا يعرفها، إنما يحس أن هذا الشعر قد يكون لفلان أو فلان، على كل حال كان يتواصل مع الناس، ويكلف نفسه أن يشتغل بهمومهم ويساعدهم والجميع يعرف عنه هذه الخاصية، بالإضافة إلى أنه كان يرحب بطلبته ويحبهم ويعتبرهم بمثابة أبنائه.
أذكر أنه حينما ناقش الأستاذ الدكتور حسن الامراني بحثه مع الدكتور قباوة كان هو الذي ضيف جميع الحاضرين في بيته تكريما لطالب يحبه، وهذا طبعا كان بالنسبة لأساتذة آخرين بدعة، لأنه لم يكن معروفا مثل هذا الصنيع لدى أناس في مثل مستوى الدكتور عبد الله الطيب.
الحافظة الخارقة.
أخيرا كان هذا الاستاذ يتمتع بكل مقومات الذكاء، حافظة خارقة للعادة، وبديهة حاضرة، أذكر أنه حينما كنت بصدد التهييء للمناقشة اتصلت به هنا بوجدة كان يحضر مرات لإلقاء محاضرات وقلت له أو طلبت منه أن يكتب لعميد كلية الآداب -طبعا أنا كنت أناقش بالرباط- أن يكتب له رسالة يقول له فيها إنه يوافق على المناقشة، فكتب (من عبد الله الطيب إلى عميد كلية الآداب بوجدة،) وكتب الرسالة فنظرت إلى الرسالة، فقلت لن أناقش في وجدة وإنما سأناقش في الرباط، لأنه كان مسكونا بوجدة ومشدودا إليها كتب (عميد كلية الآداب وجدة) والمفروض أن يكتب الرباط، فنظر فيها وأخذ القلم وغير كلمة وجدة إلى وَجَدَه بخير وسلامة، ولم يغير في الرسالة شيئا (إلى عميد كلية الآداب وَجَده بخير وسلامة) وكانت كلمة وجدة لم يُغير فيها وإنما على البديهة الحاضرة.
فهذا حقيقة علم من الأعلام، ورجل من القمم الشامخة الذين لهم ذكر الآن في المغرب ولله الحمد لدى المثقفين الذين يعرفون مقامات الناس وله كذلك ذكر طيب في السودان، وجميع مثقفي السودان، اتصلنا بهم وسألنا مجموعة كبيرة منهم الدكتور عصام البشير وغيره، كلهم يقر له بالفضل، وبأنه رجل من مستوى خاص ونمط خاص، طبعا هذه المقومات وهذه المميزات هي التي يجب أن نبحث عنها ونقف عندها لعلها تتكرر.
أي المدرسة القرآنية، المدرسة التي تشحذ كل القوى ولا تعطل أي جانب، لا الذاكرة والفكر، وهذا الحرص وهذا الدأب وهذا الإصرار على العلم، أرجو أن يكون وقوفنا بهذه المحطة سبيلاً إلى إبراز هذه المقومات.
أسأل لأستاذنا الدكتور عبد الله الطيب الرحمة والمغفرة جزاء ما قدم لهذه الأمة ولهذه الأجيال من خدمات.
د.مصطفى بنحمزة