(حق الغش) في الامتحانات!!
… كثيرة هي الظواهر والآفات “التربوية” التي أصبحت تهدد منظومتنا التعليمية. ولعل من أخطرها ظاهرة الغش في الامتحانات والتي أصبحت تستفحل وتتناسل بشكل مضطرد وفق متتالية هندسية بين جميع الفئات العمرية والمستويات التعليمية، بل انتقلت وللأسف الشديد إلى فئة من المدرسين، وقد لوحظ ذلك خلال الامتحانات المهنية الأخيرة.
ورجال التعليم يبرؤون من مثل هذه التصرفات اللاخلاقية التي تسيء إلى هذه المهنة الشريفة.
امتداد هذه الظاهرة/الآفة وتشعبها جعل منها أمرا واقعا لا يجد التلاميذ ولا الطلبة غضاضة من ممارسته وكأنه حق مشروع ومكسب من مكتسباتهم لا يجوز لأحد أن يحرمهم منه، ومن فعل ذلك من الأساتذة فالويل له والثبور وسوء عاقبة الأمور، وكثيراً ما حدثت اعتداءات لفظية أو جسدية على أساتذة منعوا تلميذا أو طالبا من “حقه” في الغش في الامتحانات. وقد يحتج عليك الطالبأو يتظلم من نقطة حصل عليها في فرض أو امتحان تَقِلُّ على نقطة زميل له نَقَل عنه نفس الأجوبة.
فالغش إذن لم يعد ظاهرة مُشينة وإنما (حق مشروع) وقد نظموا في ذلك منظومة تقول “من نقل انتقل ومن اعتمد على نفسه بقي في صفِّه”.
خطورة هذه الظاهرة على منظومتنا التربوية تتجلى أولا في كونها تفقد مصداقية النتائج المحصل عليها وبالتالي الشواهد المدرسية أو الجامعية التي تُعطى للطالب في نهاية كل مرحلة تعليمية.
الأمر الذي يؤدي إلى حرمان العديد من الطلبة الجادين والمتفوقين من ولوج بعض المدارس والمعاهد العليا ذات السمعة العلمية الرفيعة في بعض بلدان الغرب. وهذا ما لوحظ في السنوات الأخيرة بحيث رُفضت العديد من طلبات الالتحاق بالمدارس العليا بفرنسا مثلا…
وهذا أمر يؤسف له كثيرا خصوصا إذا علمنا أن طلبتنا المتوجهين للدراسة في الخارج كانوا دائما يبرهنون على تفوق كبير مقارنة مع غيرهم منالطلبة الآخرين بل وحتى طلبة الدول التي يوجدون بها على الرغم من الفروق الشاسعة في مستوى التكوين وحسن الظروف المتوفرة لطلبتهم.
قلت : إضافة إلى خطورة ظاهرة الغش على منظومتنا التربوية، لها أيضا انعكاسات سيئة وخطيرة على التكوين الشخصي والنفسي للتلميذ أو الطالب الذي يتخذ الغش مسلكا له خلال سنوات دراسته.
ولعل من أبرز تجليات هذه الانعكاسات السيئة :
< 1- فقدان الثقة :
فالطالب الذي يعتمد على الغش في الامتحانات يفقد الثقة في معلوماته وبالتالي في قدرته على الاستيعاب والتحصيل والفهم، وهذا كله يؤثر سلبا على تكوين شخصيته مستقبلا، فلا تجده إلا مضطربا لا يكاد يثبت على قرار، وغير قادر على اتخاذ مواقف ثابتة مبنية على قناعة وتبصر.
وقد لاحظنا بوادر هذا الاضطراب عند تصحيحنا لامتحانات الطلبة، فكثيرا ما يلجأ الطالب لشطب الجواب الصحيح واستبداله بجواب آخر خاطئ أُلقي إليه من مكانبعيد أو تلقفته نظراته من مكان قريب.
< 2- الاعتماد على الغير والكسل :
فظاهرة الغش في الامتحان بعدما تُفقد الطالب ثقته في نفسه فهي تعلمه الاعتماد على الغير والكسل، وتقتل لديه الرغبة في الاجتهاد والتحصيل والبحث الجاد، وتكوين رصيد معرفي وقدرات علمية تكسبه الجرأة العلمية والقدرة على المناقشة الجادة والاقناع، وهذا مما يقوي شخصية الانسان ويكسبه احترام وتقدير الآخرين. ولذلك فلا غرابة والحالة هاته إذا كنا نلاحظ تَدنياًٍّ مُخجلاً ومستمراً في المستوى العلمي لدى طلبتنا والعديد من مثقفينا الجدد : سطحية في النقاش وعدم قدرة على السجال الفكري الرزين وغياب تام للجرأة العلمية والخطابات الهادفة الجادة والمقنعة، والمتصفح للعديد من الجرائد اليومية يريعه ما يقرأ : سطحية في التحليل وأخطاء لغوية مخجلة وركاكة في الأسلوب وفقر مدقع في المعلومات.
< 3- الانتهازية :
إضافة إلى ما سلف، فإن احتراف الغش في الامتحانات يُعلم الانتهازية والوصولية واتخاذ كل سبيل من أجل الوصول إلى الهدف دون بذل أي جهد يذكر، والهدف في هذه المرحلة هو النقطة وقد يكون فيها بعد منصب أو جاه أو مغنم وغير ذلك.
ولذلك فإن الغش في الامتحانات لا يفرز في النهاية سوى فئة من المتهالكين والانتهازيينن وصيادي الفرص بلا مستوى ثقافي ولا خبرة علمية كافية ولا فهم كافٍ لحل المشاكل والاسهام في نهضة الأمة. وهذه الفئة بدورها تنتج فئات أخرى أو لوبيات بنفس الخصائص تكثيرا لسوادها وحماية لاستمراريتها حتى يصبح الأمر وكأنه قدر مقدور. وفي ظل ذلك يُبعد الصالحون وذوو الحنكة والخبرة والغيرة على هذه الأمة، وإذا أُسند الأمر لغير أهله فانتظر الساعة.
< 4- الاستهانة بالأمانة :
الغش يعلم الطالب منذ البداية الاستهانة بالأمانة، فالمعلومات التي يطالب بها المتعلم هي في نهاية المطاف أمانة أُوتُمِنَ عليها، ويُطالب عند الامتحان بمصداقية مدى حفظه لها واستثمارها والإفادة منها في حالات مختلفة.
ومتى برهن على استيعابها وفهمها والقدرة على استثمارها أصبحت جزءا من منظومته الفكرية وخبراته العلمية، وله أن يطورها فيما بعد ويصوغها في قوالب شتى قد تفيد، وهكذا يقع تلاقح الخبرات والاستفادة من تجارب الآخرين وخبراتهم.
< 5- الخيانة :
وأخيرا وليس آخرا، فالغش خيانة بالمعنى الديني للكلمة، وهو لا يقل خطورة عن أنواع الخيانات الأخرى. فهو خيانة للأمانة العلمية وخيانة للنفس بحرمانها من فرصة للتعلم والتكوين قد لا تتاح للانسان مرة أخرى، وخيانة للأمة التي تنفق الشيء الكثير من أجل تكوين وتعليم الناشئة ليكونوا مواطنين صالحين معتزين بقيمهم وحضارتهم وثقافتهم حتى يكون بإمكانهم مواجهة التحديات الجسام التي أصبحت أكثر من أي وقت مضى تهدد أمتنا لا في اقتصادها وسياستها فحسب، وإنما في وجودها كأمة لها مقوماتها وخصوصياتها الحضارية والثقافية.
وهيهات هيهات أن نواجه هذه التحديات والصعاب بشباب استمرأ الغش في الامتحانات.
ذ.عبد القادر لوكيلي