حين طلع البدر علينا بكلميم وفسك وآسا
1- هنا باب الصحراء، هنا كلميم،
حين قاربت السيارة ذلك البناء الحجري الأحمر المقوس الذي يحمل جداره العلوي إسم المدينة، طالعتنا كتابة عملاقة بيضاء الحروف، خطت على صدر جبل منيف من جبال المدينة تحت عنوان: باب الصحراء كلميم.
ويقينًا يا قارئي لن أستطيع القبض بدقة على خليط المشاعر التي انتابتني ونحن نلج تلك الرقعة العزيزة من الوطن، فقد اعتلجت بداخلي ونحن نعبر البدايات الجغرافية لأقاليمنا الصحراوية، أحاسيس وطنية ملؤها الحزن والأسى لمصير أرض مغربية لازال جشع الاحتلال، يقيم فيها مخيماته الاستعماريةَ بيد “قشاوش مغاربة” مارقين، و يستعبد فيها رجالاً من عسكرنا، من مختلف المراتب، ولدتْهُم أمهاتهُمْ أحرارًا أعزَّةً، ولا عيب فيهم إلا أنهم سيقوا أكباشًا إلى سجون أبو غريب جديدة قديمة، فداءً للسياسة المدنسة، كما شهد شاهد من أقطاب اليسار في حقها !
وإذا كانت تلك مشاعري الترابية، فإن مشاعري الروحية لم تكن أقلَّ ارتجاجا، فلحظة وُلوجنا العتبات الأولى لمدينة كلميم تملَّكني شعور عجيب، تصورتني فيه حفيدةً جديدة للفاتح العظيم عقبة بن نافع. .. حفيدةً رسالية تحمل مشعل الدعوة من أقاصي الغرب إلى الثخوم الأولى للجنوب…كيف بدأت الرحلة؟
2-ولذكر الله أكبر
سبحان الله في رسول مجتبًى لا ينطق عن الهوى، حدثنا عن القلوب التي تصدأ وجلاؤُها ذكر الله، وحدثنا عن البيوت التي يذكر فيها الله سبحانه، وقال عنها بأنها الحية النابضة، وشبه تلك التي لا يذكر فيها الله سبحانه بالبيُوت الخربة ووصفها بالموت. وأصْدُقك القول قارئي، فقد أتت علي أوقات ما فتئ فيها الشعورُ بالصدأ بداخلي يتفاقم، وألفيتني أنساق إلى متاع قليل وهموم وهمية، شدّتني إلى الطين، وحجبت عني الأعالي، فكان لا بدأن أفعل كما تفعل الملائكة، فأبحث عن مجلس ذكر، أتزود فيه من الأنوار الإلهية. وبتوفيق إلهي مبارك، كان هناك سفر دعوي عائلي لنساء ورجال من أهل الدعوة، فسألتهم استضافتي في رحلتهم تلك التواصلية مع إخواننا في الجنوب، فقد كانت تلك، فرصتي الربانية لأتمرَّن على حب الله، بحضور مجالس يُذْكر فيها الله سبحانه قياما وقعودا وعلى كل حال … ووفقني سبحانه لرحلة التزود تلك، فنهلت ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وكان أولا الغيث المبارك بكلميم وفسك وآسا ، عجبا …
3- حين طلع علينا البدر بكلميم
جرت مدامعي هطالة ونحن نصعد درج بيت مضيفات عائلتي من النساء، فقد كانت هناك صبايا صحراويات يقفن على عتبة البيت في استقبالنا، بكؤوس الحليب والتمر الصحراوي اللذيذ، والرائع أن تهرع إلينا امرأة مسنة مهيبة من أهل البيت فتحضننا وهي تردِّدُ النشيد البدري : طلع البدر علينا…
يا الله يا الله هل يستطيعالزمن أن يعود القهقري وأن نعيش أجواء الانتصار الإسلامي الباهي مرة أخرى؟ .. ها نحن كما في حديث رسول الله ، من قبائل شتى نجتمع في بيت من بيوت أقاليمنا الصحراوية الحبيبة، نذكر الله سبحانه، وهاهي عناقيد النساء الصحراويات تلتف حول أخواتهن من النساء الداعيات، لارتشاف رحيق أحاديث رسول الله في فضل مجالس الذكر.
وهاهي ذي السكينة مصداقا لقول رسول الله تتنزل علينا. قال رسول الله : >..ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده< أو كما قال .
فيا أ الله، فيا أ الله في هذا الانصهار والتلاحم الذي تجري أطواره تحت خيمة الإسلام، وما أروع هذا الدين الذي يؤالف القلوب ويحييها بعد موتها، بعيدا عن المظلات المريضة للسياسة النفعية والعصبيات الاستعلائية….
ونحن في المجالس العامرة شغفتني حكايات الإيمان يرويها البسطاء والبسيطات فتطلع من أفواههم دُرًّا منثورا…. حكوا عن ذلك الرجل الصالح الذي كان ثريا عظيما في قومه، ذليلا على إخوته من المسلمين حيث كان كلما فرغت مراحيض المساجد من المتوضئين، يقوم بتنظيفها وحده، فيغسل بيوت الخلاء بالمواد المنظفة والمعطرة، ويلمعها وهو يذكر الله سبحانه ويخاطب الصنابير أثناء تلميعها وتعطيرها قائلا لها: إني والله لأنظِّفك لوجه الله وألمعك لكي تكوني جميلة نقية للمصلين، وحتى تشهدي لي يوم القيامة شهادة تعينني على النجاة من النار.
فسبحان الله في هذا الحس الديني اليقظ، الذي تجاوز الحس الوطني الانتقائي، هذا الحس الذي يعتبره بعض الضيقي الأفق الروحي، بمثابة سفينة نوح التي ستعبر بنا الأهوال وتجتاز بنا المحال لتصل بنا إلى خليج النجاة ! .
4- الزريكة الصحراوية والإرث النبوي المقدس
لن نتوقف كثيرا عند لوحات أخاذة العطاء في المشهد الصحراوي، وإن كانت باهرة التفاصيل، وتشهد على عراقة الحس الحضاري لإخواننا بالجنوب، ويكفينا التوقف عند إحدى أجمل المحطات، وهي التي يستقبل فيها البيت الصحراوي ضيوفه، حيث تتبدى المرأة الصحراوية، امرأة مشدودة إلى العطور والبخور بشكل عجيب، وعلامة ترحيبها ومحبتها لضيوفها يشي بها استقبالها لضيفاتها بالبخور وزجاجات العطر التي لا تفتأ تسكبها على زائراتها بسخاء وكرم، تكاد معه تفرغ على كل ضيفة قارورة عطر، فإذا دثرت مضيفاتها بالعطور انتقلت بهن إلى المشهد الثاني مشهد الشاي، ولن أجازف إن قلت إن صناعة الشاي جلسة وإعدادا وصبا، بمختلف تقنياتها، صناعة صحراوية بامتياز. فأن تجلس المرأة الصحراوية لتعد لك كأس شاي، فكأنك أمام رسام تشكيلي عبقري اللمسات الفنية، فبحب وحس فني عجيب، تجلس الصحراوية إلى صينية الشاي، تقلب الكأس وراء الكأس وراء الكأس في البراد، حتى إذا انتهت من وصلة ” القلب ” خرج الشاي من فوهة البراد، دسما مخضرما تجلله ما نسميه نحن المغاربة ” بالرزة والكشكوشة “.
ولن أحدثكم عن باقي مراسيم الضيافة والإكرام الصحراوي، فالأمر لا يتعلق بجزئيات بسيطة في الاستضافة بل بمشاهد كرم استثنائية تبدأ بالبخور والعطور كما أسلفنا، وتتوسطها ذبائح الإبل وشرب الحليب أو اللبن الجماعي من خلال إناء واحد يشبه “ما يسمى بالجبانية”، يشرب منه جميع من في المجلس، وهي طريقة يطلق عليها الإخوان الصحراويون “الزريكة”، وهي من مخلفات إرث نبوي شريف، مقصده إشاعة مشاعر المحبة والوحدة بين المسلمين عبر التشارك في الشرب من الإناء الواحد، إلى الختم مسكا، بجلسات الشاي الأخاذة الإيقاع من خلال أصابع معدتها الماهرة، في قيادة عملية تحضير الشاي غير المنعنع .
وهي الأصابع والمهارة التي ذكرتني بأمي الصحراوية الجذور، التي تعلمت منها عشق هذه المنطقة من الوطن، فلطالما انخرطت أمي في أوقات مرح هنية لم تبق منها غير الذكريات!، في الرقص بأصابعها، بطريقة فنية عجيبة وهي ترى الصحراويات في التلفاز يؤدين رقصة ” الكدرة”…
5- لا يعذر أحد بجهله الدين .
إذا كان المشهد الصحراوي بهذا الثراء والإنشداد إلى الأصول النبوية في الكثير من معانيها… فكما يقول المغاربة: “حتى زين ما خطاتوا لولة” فهنا بكلميم وآسا يتحدث الشباب و الشابات عن مظاهر غريبة على المجتمع الصحراوي، أخذت في السريان وإن بشكل نسبي، وَرَمًا خبيثا، كتدخين النساء العلني للسجائر والعلاقات الجنسية المبكرة بين التلاميذ، والتلميذات وتعاطي المخدرات وشرب البيرة ( الجعة) أمام المعلمين، أما عري الصبايا فحدث ولا حرج ….
إلا أن أكثر مظاهر غياب الدين الصحيح تتمثل في التعاطي الكبير للشعوذة من طرف الجنس اللطيف.
ولقد جلسنا إلى نساء أخبرننا بتعاطي النساء المحموم للشعوذة والسحر، ناهيك عن ممارسات أخرى تنم عن جهل تام بالدين، بل ازدراء للدين في بضع حالات.
ولعل أعجب الأقاصيص الحية التي صادفتها في خروجي، والأليمة الوقائع، تلك التي جمعتنا في الصحراء، على ضفاف وادي درعة برجل مسن كان عسكريا سابقا، وهذا العسكري بالمناسبة لم يبق جزءٌ من جسمه خالياً من رصاص جبهة المغفلين، المدعوة بالبوليساريو وقد كان يمتهن حرفة الشعوذة في الماضي واختار بعد تقاعده في لحظة عزوف عن الناس، اللجوء إلى الصحراء، حيث بنى خيمته. والمحزن في اختياره هذا، أن يضع في هذه الخيمة امرأتين هما زوجته، … ولكم أن تتخيلوا كيف سيكون وضع امرأتين إحداهما حامل في شهرها الأخير، تعيشان في الخلاء والعراء فوق فراش هش، معرض لشر الزواحف من عقارب وثعابين، وهما في خيمته مجرد جاريتين يضربهما ضرب البعير نهارا ويطالبهن في عز إعيائهن بردا وجوعا، بحقوقه الزوجية ليلا …. وقد زرناه رحمة به وبنسائه المقهورات، وحدثناه حديثا نورانيا في ذكر الله وحب الله، وأدركنا إلى أي حد ونحن نخوض معه معركة التطهير الداخلي ليطلق سراح زوجتيه بمعروف أو يعاشرهن بمعروف ويكسر قناني الخمر التي يتوسدها ليل نهار، عظمة هذا الدين الرحيم الذي يذهب إلى مَجَاهِيل صحرائنا العزيزة ليبعث الروح في القلوب المكلومة.
إن أفدح غربة هي تلك التي نحيى على وقعها في زمن الفتن هذا، زمن راسي يا راسي كلها يقول راسي، حيث لا أحد يهتم بأحد ولا أحد يسأل عن أحد لأن اللصاق واللحمة التي كان بإمكانها أن تلحم بين الأفراد والجماعات ضيعها حب الدنيا في الاتجاه الجشع اتجاه ” كلها يعوم بحروا ” .
فما أصدق رسول الله حين تحدث عن غياب هذه الفطنة للضعفة والمساكين وعدم الاهتمام بشؤون المسلمين. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : >ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذيلا يجد غنى يغنيه ولا يُفْطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس<( متفق عليه ) .
6- وختامــــــــا
فالدين وحب الدين واقع ثابت يبصم حياة المدن الصحراوية الثلاث التي زرناها تزودا من مجالس الذكر و وتواصلا مع أهلها البررة، فما دخلنا بيتا نسأل فيه تجمعا للحديث في صفات رسول الله التي بنى بها نفوسا ودولا وأذَلَّ بها إمبراطوريات عظمى إلا وجدنا أرواحا عطشى للدين ولحديث السماء الموصول بالأرض.
وبالتالي فالحاجة إلى قوافل إيمانية من النساء والرجال تبعث الأرواح وتجتَثُّ منها نوازعَ الظلم وحوافز الإرهاب، تبدو عاجلة أكثر من أي وقت مضى، فحقا لا يعذر أحد بجهله القانون، ولكن الأحق أن لا يعذر أحد بجهله الدين، لأن الدين هو قنديل القانون بل قنديل الحياة في كل مناحيها، و هو الذي ينزل السكينة والرحمة ويوقد في القلوب والضمائر حِسَّ المسؤولية في البيت والشارع وحتى الدولة فيخرج الانتهازيين فيها من دناسة السياسة إلى قداسة السياسة، فيساس المواطنون بالعدل والإحسان، لا بإيديولوجية “العزيل، وسياسة اللّي مِنَّا يجي لينا واللّي منهم يمشي ليهم”، و هو دين الرحمة، فلا يعزل بين غني وفقير، واشتراكي وإسلامي، وشيعي وسني، لأنه ينظر بعين الشفقة والمحبة للجميع، في حين يتكفل سبحانه بإنزال أنوار الهدى والعافية إلى القلوب الغافية.
وليس أجمل من أن أختم حديث الجنوب هذا بالحكاية العجيبة التالية وهي من الكنوز النبوية الفريدة، وللقارئ الكريم مطلق الحرية في استخلاص الدُّرر الكامنة في ثناياها.
تقول الحكاية وهي من السيرة النبوية أن رسول الله رأى امرأة يهودية عجوزاً، تحمل ثقلا أنهكها فحمله عنها، وعندما أوصلها إلى حيث تقصد، قالت لَهُ بأنها لا تَمْلك مالاً تجزيه به، لكنها ستوصيه وصية ثمينة، فحدثته عن ظهور رسول عربي، فرَّق بين الرجل وزوجته والأب وابنه، وأوصَتّه بأن لا يتبعه، وإذ أنهت وصيتها سألته بأدب وعرفان لحُسْن صنيعه معها عن اسمه، فأجابها بالكلمة القاصمة: مُحَمَّد بن عبد الله ، فردَّتْ لتوها : إن كنت أنت محمَّد بن عبد الله فإنّي اشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله .
ذة.فوزية حجبي