كلما غصت أكثر في عمق التخلف والهوان ومختلف الأمراض التي تعاني منها أمتنا، وفي مدى تكالب الأمم علينا، يتضح لي أكثر بعد المسافة بيننا وبين مفاهيم القرآن الكريم وقيمه ومبادئه. ليس باعتبارها تصورات مجردة، قد نؤمن بها ثم نتصرف على هوى عبوديات مختلفة، وإنما باعتبارها منهجا حياتيا، يحقق الحرية للإنسان المسلم، ويتبلور سلوكا ومواقف، يحدد علاقاته، ويسمها بسيماه . وكلما اقتربت من القرآن الكريم، ازداد يقيني بأن الشفاء لا يمكن أن يتم إلا من التزود الصحيح منه. وهذه ليست نظرة سطحية للأمور، أو مثالية، وإنما هي قراءة متأملة، مخلصة يشترك فيها كل مهموم بأمر هذه الأمة. وقد كان آخر من قرأت لهم في الموضوع الأستاذ فريد الأنصاري، الذي ينطلق في كل أبحاثه المعمقة من مسلمة يسطرها في افتتاحية مجلة “رسالة القرآن” التي يشرف على إدارتها، مفادها “ألا بقاء ولا حياة لهذهالأمة بغير هذا القرآن، وألا بعثة لها من جديد، وألا خروج لها من ظلمات هذا العصر العصيب إلا بهدا القرآن”.وربما كانت رسائل النور للإمام سعيد النورسي من أبرز الكتابات التي قدمت مشروعا متكاملا في هذا المجال . ومنهجيته المستمدة من منهج القرآن الكريم الهادفة إلى تبصير المسلمين بحقائق كتاب الله ورسالته إلى العالمين، تحتاج إلى وقفات متأنية لبسط كيفية جعل المسلم يصحح إيمانه وعلاقته بالقرآن الكريم، وينشَدُّ إلى إشعاعات دلالاته ومقاصده، لتنير مسالك حياته، وتصيغها بصبغته الربانية، فتتحول الظلمات المحيطة بالأمة إلى أنوار تتلألأ بالعزة والكرامة والرقي . ولعل قراءاته المتبصرة في تجليات أسماء الله الحسنى، هي التي دفعتني لكتابة هذه التوسمات من أجل إشراك كُتّاب المحجة وعلمائها وقرائها لتكوين خلية بحث في “تجليات الأسماء الحسنى الكونية” يكون أعضاؤها متخصصين في مجموعة من العلومالشرعية والإنسانية والطبيعية . تكون مهمتها تقديم فهم متجدد لأسماء الله الحسنى الواردة في القرآن الكريم، انطلاقا من الدراسة المعجمية والاصطلاحية والبيانية، إلى دراسة السياق والدلالة والعلاقة والمقصد، وذلك من مختلف جوانب التخصصات العلمية والشرعية والأسلوبية في تكامل مع بعضها البعض، ويكون هدفها الأول بيان أن “الوظيفة الأساسية للقرآن، الكريم هي تعليم شؤون دائرة الربوبية وكمالاتها، ووظائف دائرة العبودية وأحوالها”(الكلمات : 293/1)، وترسيخها في نفس المسلم، وتبليغها بأسلوب هادئ، مستند إلى حقائق علمية مستنبطة من تجليات الأسماء الحسنى.
وقد يقول قائل بأن هذه مهمة العلماء والجامعات والمعاهد المتخصصة في الدراسات القرآنية، لأرد بأن هذه مهمة كل مخلص يؤمن بضرورة تفعيل القرآن الكريم في حياتنا وسلوكياتنا. وكل من يملك نصيبا من تخصص معين، ويجد في نفسه القدرة على الانتساب إلىخلية البحث المقترحة، والجلوس إلى علمائها المتخصصين، له الحق في ذلك. كما يمكن أن يقال بأن هناك أبحاث ودراسات في هذا المجال . فأقول بأنها مجهودات فردية متفرقة يجب أن تُجمع، لتنصهر في بوتقة عمل جماعي شامل متكامل يشرف عليه فريق علمي متخصص، عسى أن يكرمنا الله تعالى بتجليات تعيننا على النهضة والرقي الحضاري، وتكون طريقا ممهدا إلى الجنة.
وهذه الدعوة مفتوحة للنقاش والحوار وللفعل، وللتفكر والتدبر التي لا تكاد تخلو منها آية من آيات القرآن الكريم، أرجو أن تجد صداها في نفس القارئ، سواء من خلال مناقشة الفكرة وتقديم اقتراحات حولها، أو من خلال التفكير في تكوين الخلية نفسها، وإرشادنا إلى الأبحاث والدراسات والكتب والمواقع التي تصب في هذا المجال، إما عن طريق المحجة أو بواسطة بريدي الإلكتروني المسطر أعلاه. كما أرجو أن تجد صداها في عقول علمائنا الأجلاء للمشاركة فيها توجيها وترشيدا وتفعيلا. إلا أنه يجب التذكير أن هذه ليست دعوة لتفسير القرآن لكل من شاء، لأن التفسير له علماؤه وشروطه، وإنما دعوة لكي نبتدئ من القرآن في كل أمر من أمور حياتنا وننطلق منه بوعي وبصيرة.
يقول تعالى :{لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله . وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون. هو الله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم، هو الله الذي لا إله إلاهو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون. هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى. يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم}(الحشر : 21- 24). صدق الله العظيم وبلغ رسوله الكريم، ونحن على ذلك من الشاهدين المقصرين، الذين يدعون الله تعالى أن يخرجهم من هاوية التقصير، ويسدد خطاهم لما فيه خير هذه الأمة وصلاحها، آميـن .
——–
1 – الكلمات : 1/293.
دة.أم سلمى