{ومن يُوقَ شُحّ نفْسه فأولئك هم المفلحون}
الصدقة برهان
جاء الإسلام ليخلص الإنسان تماما من كل عبودية لغير الله، إلا أن الإنسان عندما ينحط يعبد كل شيء غير الله، يعبد إنسانا مثله، أو يعبد هواه وشهوته، أو يعبد ما هو أقل منه كالأحجار والأشجار والحيوانات، أو يعبد المال، أو بعبارة القرآن يعبد الدنيا { كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة} ولهذا الاعتبار كان الجهاد بالمال مقدما على الجهاد بالنفس، وقال : “الصدقة برهان” أي برهان عن التخلص من حب الدنيا، والتجرد لحب الله، ولهذا كان الصحابة يتسابقون للتطوع بالمال في وقت الأزمات، وأكثرهم بذلا لوجه الله تعالى، هو الذي أجمعت عليه الأمة ليكون خليفة للرسول، وهو أبو بكر.
أما نحن الآن فنجد الكرم يتدفق أثناء الانتخابات للوصول إلى مراكز يجمع فيها أضعاف أضعاف ما بذله، فهؤلاء ليسوا كرماء، ولكنهم بخلاء، والبخيل لا خير فيه. عندماأخبر بأن امرأة تصوم وتقوم ولكنها بخيلة، قال وأي خير فيها. والناس يقولون : الصلاة عبادة، والصيام جْلاَدَة، والرجل يظهر عند هذا وهذا، والإشارة في هذا وهذا للدرهم والمال.
صدقة الفطر
بالنسبة للغني تخرج من أجود طعامه للمعاملة بنقيض بخله، وفي الشرع نصوص كثيرة تنفِّرُ من الشح والبخل، حتى أن الفقهاء لما يتحدثون عن زكاة الفطر، يقولون إن الانسان يخرجها من غالب قوت أهل البلد، أي لا يخرجها من أعلى الأنواع، إلا إذا كان يأكل أحسن الأنواع، فيخرج زكاة فطره من الطعام الجيد.
فالفقه الاسلامي فيه ومضات مضيئة، وإشارات كثيرة جدا إلى أن تصرف البخيل ووضعه ليس وضعا طبيعيا، فهو غنيٌّ ولكن يأكل من طعام الفقراء، فليفعل إن شاء ذلك لنفسه، وسيكون محمودا إن كان زهدا مع التكرم، إلا أنه يكون كريما إذا زكى مما يأكله الفقراء، ولهذا قال الفقهاء عليه أن يزكي مما يزكي منه الأغنياء لا مما يزكي منه الفقراء.
البخل يصيب الشعوب في المقاتل
فالنصوص متضافرة وكثيرة في إفادة هذا المعنى، وعند عموم المسلمين، أن هذه السمة منها :
أ- أنه يمنع المال من التداول والرواج، خصوصا إذا كان يهرب خارج الأوطان.
ب- أنه ينشئ المشاريع التي تهدر الأموال، وتفسد الأخلاق والأعراض.
ج- أنه يسخره لظلم الناس بالرشى والتسلطات والتسلقات والإذلالات والانحطاطات، ولهذا ورد “لو تبايعتم بالعينة وتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم من يذلكم” أو كما قال . إنه شيء مسترذل.
وتقول أم البنين، أخت عمر بن عبد العزيز : “أف للبخيل لو كان قميصا ما لبسته، ولو كان طريقا ما سلكته”.
هذا البخيل لا يصلح لشيء. لماذا كل هذا؟ لأنه يعوق ويحول دون أن يؤدي الإنسان رسالة المال. إن الغني البخيل يجني على أمته، ويمنعها من أشياء وأشياء كثيرة.
لو أنه كان كريما لاستطاع أن يبني مؤسسة، أو مسجدا، أو دارا لإيواء الفقراء أو أن يعين طلبة العلم، و الأرامل والأيتام.
أشياء كثيرة نستطيع أن نتصورها منه لو كان كريما، لكنه حينما يكون بخيلا فإنه يفوِّت على الأمة أشياء وأشياء كثيرة، يضيع عليها جهودا عظيمة، ونقارن بينه حينئذ وبين أي إنسان أوربي يفيد أمته، فسنجد الفرق شاسعا، لاعب كرة أو ملاكم مثلا يقال عنه إنه ربح في بعض المباريات ما يقارب ثلاثمائة أو أربعمائة مليون فيخرج عن ذلك كله لدار من دور العجزة والفقراء مثلا، هذا شيء جيد لا تكاد تجده عندنا. هذا مما لم نأخذه نحن من الغرب مع العلم أننا كنا سباقين، نحن أخذنا أسوأ ما عند الغرب، الغربيون نلاحظ في بعض الأحيان أن بعضهم ينشئ مؤسسة وبعضهم يساعد في كذا أو كذا، أما نحن فنحسن الكلام فقط ونُنَمِّقه، ولكن الفعل لا يوجد، فمن من لا عبينا أو زعمائنا مثلا عرف عنه أنه فعل شيئا كبيرا، عندنا كبار السياسيين والتجار ولكنهم لا يحركون ساكنااتجاه تأسيس مراكز البحث العلمي، أو تأسيس مراكز العلم والدعوة، أو تأسيس دور التصنيع وتكوين المَهَرة في كل ميدان.
قرناء الشياطين من المسرفين من أكبر معاول الخراب لاقتصاد الشعوب
صار الانسان قرينا للشيطان، حيث يجد الشيطان ضالته وبغيته في المسرفين أكثر مما يجدها في البخلاء. البخلاء لا يطاوعونه لأنهم بخلاء، أما المسرف فإنه أخ للشيطان قرين له أينما يذهب به يتبعه. فأكثر أنواع الشر مصدرها المال في يد السفهاء من العرب الذين ينفقون بلا حساب على أشياء غير مشرفة.
الإسلام حذر من آفة الإسراف
واتباع المسرفين
الإسلام حذر من هذه الآفة، ومع ذلك فالإسراف موجود عند الغربيين وعند الأمريكيين والأوربيين وفي جهات أخرى، وهو موجود أيضا عند الشعوب المتخلفة، وله مخاطر عليهم هم وعلينا نحن، لكن مخاطره علينا تأتي مضاعفة، لأننا تابعون لهم.
إن الإسراف عند الغربيين، هو جزء من عقليتهم الاستهلاكية لأنهم يجدون ملجأ، ولا يجدون متعة في شيء إلا في الإنفاق، الأوربي لا يعرف الله، لا يعرف الفضيلة وإن كانوا يحاولون هم والأمريكيون أن يرسموا في أدمغتنا صورة لماعة، يريدون أن يحفروا في أدمغتنا صورة النزيه، صورة الإنسان الذي دائما يتصرف وفق الحق ولكن الأمر عكس ذلك، فنحن رغم تخلفنا ألطف وأنظم الناس على وجه الأرض لما نتوفر عليه من ضمائر الإيمان، فنحن كمسلمين يأكل بعضنا بعضا فعلا لغفلتنا وبلادتنا، ولكننا نحن لسنا طغاة كما هم الآن طغاةٌ، لسنا أناسا يتلاعبون بالحق، لا، لسنا أناسا نُنْفِقُ على المنكر كما ينفقون، أنفقوا على الباطل بالبوسنة والهرسك، ووقفوا مع الباطل في فلسطين وغيرها يلبسون الباطل أثواب الحق، لهم تاريخ سيء في مختلف بقاع العالم، ولا عجب في ذلك، فهؤلاء الغربيون لا يعرفون الله ولا يتلذذون كما نتلذذ نحن بتقوى الله، أنت تتلذذ بالصيام، إذا صمت يوما عشت فرحا، وحين تفطر تفرح، أنت تغالب نفسك وتثبت لها أنك قادر على فعل شيء، إذن فأنت تجد متعتك في الصيام، تجد متعتك في الصلاة، إذن المسلم لديه فرص كثيرة للمتعة.
عقلية الكافر عقلية استهلاكية
لخواء روحه
أما الكافر فماذا لديه؟ ليس لديه شيء من هذا ، لذلك تنشأ لديهم هذه النزعة الاستهلاكية، ويحبون التغيير بكثرة، لديه اليوم ثلاجة، غدا يريد تغييرها، لديه هاتف يريد تغييره، لديه تلفاز يريد أيضا تغييره، إذن فهم يكذبون على أنفسهم بهذا النوع من الحياة، نحن نشتري الأشياء لنقضي مصالحنا ونحقق من خلالها مآربنا لا غير، ليست لدينا تلك النزعة الاستهلاكية التي لديهم، فالإسراف عندهم له سببان، السبب الأول هو إرضاء الذات، إرضاء الإنسان، وتلبية داعي الشهوة فيه، الإنسان لا يتوقف عن الشهوة، لذلك دائما يبحث عن مجال جديد للاستمتاع، والشركات المتخصصة تعرف في الإنسان هذه الرغبة فدائما هناك برامجوصحف تظهر للناس بأحدث شيء، هناك جرائد إشهارية توزع على البيوت مجانا تعرض لأحدث المنتوجات الصناعية في عالم السيارات والأثاث وغيرها من المواد الاستهلاكية، الشيء الذي يدفع بالغربي إلى الذهاب واقتناء منتجات هذه الشركات، فهذا نوع من إمتاع الذات وتلبية أكبر ما يمكن من رغباتها بشكل أحمق.
أما الباعث الثاني فهو إظهار التفوق على الشعوب الأخرى، وإظهار احتقار الشعوب الأخرى، فكثير من المنتجات الآن ومن التجارب ليست البشرية في حاجة إليها، ومع ذلك تحرص أمريكا والغرب على التسابق نحوها من أجل إظهار تفوقها، ومن أجل غرس التبعية والذيلية والخوف في الشعوب الأخرى حتى لا تفكر في أن تقوم ضدها. لقد كان بعض الأمريكيين في أمريكا وحتى عندنا وعند غيرنا من الدول نجد أناسا يقودون سيارات فخمة وتستهلك وقودا كثيرا، لكنه إذا تعطلت به في الطريق يأخذ رخصته وأوراقه ويتركها ولا يعود إليها أبدا ذنبها أنها تعطلت.
فهذا كله ليس ترفا أو بذخا، وليس كل مُسرف أمريكي مستغنيا إلى هذه الدرجة، ولكنها الحرب النفسية على الشعوب الأخرى التي حين ترى مثل هذا الفعل تَعْظُم أمريكا في عيونها، وتظن أنها قوة لا تقهر، ولا يجب أن يُعصى لها أمر.
فهذا الإسراف عند الغربيين له هذه البواعث والأسباب، وله هذه الرسالة المشفرة المفتوحة لتضييع أموالنا فيما لا يزيدنا إلا خرابا.
د.مصطفى بنحمزة