الغزالي الشاب… في قلب المعركة
عرفتُ شيخنا الإمام الغزالي -غزالي هذا العصر- أول ما عرفته قارئا له، في أواسط الأربعينات،و أنا في أواخر المرحلة الابتدائية، وأوائل المرحلة الثانوية، طالب بمعهد طنطا الديني الأزهري، بعد أن ارتبطت بدعوة الإخوان المسلمين، كبرى الحركات الإسلامية الحديثة، وركيزة التجديد الإسلامي، والعمل الإسلامي الجماعي، بعد سقوط الخلافة، وتمزق الأمة الواحدة إلى أمم متفرقة.
وكان الغزالي أحد كتاب الدعوة البارزين.
كان الغزالي يكتب في مجلة (الإخوان المسلمين) الأسبوعية، في باب ثابت تحت عنوان : (خواطر حرة)، وكان يشدني إليه فكره الثائر، وبيانه الساحر، وأسلوبه الساخر، فقد كنت أرى فيه -إلى جوار كونه داعية- أديبا من الطراز الأول. وكان الأدب والشعر في تلك المرحلة هو شغلى الشاغل، ومحور قراءتي واهتمامي، وكان أول ما قرأته أدب المنفلوطي والرافعي، وأحيانا العقاد. وكان الغزالي يحمل روح الرافعي وتألقه، وسهولة المنفلوطي وتدفقه، وتأمل العقاد وتعمقه، وانعقدت بيني وبين الغزالي الكاتب -على بُعد- صلة عقلية وروحية عميقة، من جانب واحد طبعا، هو جانبي بحيث كنت أترقب المجلة، لأقرأ أول ما أقرأ فيها مقالتين : مقالة محمد الغزالي، ومقالة عبد العزيز كامل.
ولم يكن يخطر ببالي أن صاحب هذا القلم البليغ شيخ أزهري، فعهدي بالمشايخ الذين قرأت لهم -في بعض المجلات الدينية مثل مجلة “الإسلام”- أن يكتبوا في غير الموضوعات التي يكتب فيها الغزالي، وبروح غير روحه، وطريقة غير طريقته.
…تلك هي المعركة ضد الظلم الاجتماعي، والامتيازات الطبقية، والفوارق الاقتصادية الفاحشة، التي جعلت بعض الناس يزرعون القمح ويأكلون التبن، ويزرعون القطن ويلبسون (الخيش)، ويبنون العمارات الشامخة على أكتافهم، ويسكنون هم وعائلاتهم في (البدرونات) علىأحسن الفروض! على حين يعيش آخرون غرقى في الذهب والحرير، دون أن يقدموا للحياة عملا.
وفي هذه الفترة ظهر للشيخ كتابه البكر : (الإسلام والأوضاع الاقتصادية)، وهو أول ما دخل به ميدان التأليف، وهو في مقتبل شبابه.
…. وكتب جملة مقالات في مجلة (الإخوان)، ضمنها فيما بعد كتابه الثالث : (الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين)، وكان ذلك قبل أن يصدر الأستاذ سيد قطب رحمه الله كتابه : (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، وقد كتب في قائمة مراجعه بالطبعة الأولى كتابَيْ الغزالي : (الإسلام والأوضاع) و(الإسلام والمناهج).
وكان الشهيد سيد قطب قد أصدر مجلة (الفكر الجديد)، وهي مجلة ثورية تعنى بالمسألة الاجتماعية، وتستلهم الإسلام، ولم تستمر أكثر من بضعة أشهر، وكان الغزالي أحد كتابها.
… وعندما التقينا فيما بعد في معتل الطور سنة 1949، كان الشيخ الغزالي إمامنا في الصلوات، وخطيبنا في الجمعة، ومدرسنا في الحلقات، مع أخيه ورفيقه العالم الفقيه الشيخ سيد سابق، كان يصلي بنا الصلوات الخمس، ويقنت بنا قنوت النوازل، وكان من دعائه في هذا القنوت : اللهم افكك بقوتك أسرنا، واجبر برحمتك كسرنا، وتول بعنايتك أمرنا، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، اللهم عليك بالظالمين!.
وكان الشيخ يلقي علينا محاضرات في موقف الإسلام من استبداد الحكام، كانت نواة الكتاب الذي أصدره بعد الخروج من المعتقل، وهو : (الإسلام والاستبداد السياسي).
…كان الغزالي بعد خروجنا من المعتقل أواخر سنة 1949م، هو اللسان الأول الناطق باسم الدعوة إلى الإسلام، والمحامي الأول عن حرماته ومفاهيمه.
فهو يسطر المقالات الممتعة في مجلة (المباحث) التي استأجرها الإخوان، لتعبر عن رسالتهم، ويؤلف الكتب التي تخاطب عقل المسلم وقلبه، وتعمل عملها في إيقاظ الوعي الإسلامي العام.
وهو يقف بالمرصاد لكل متطاول على قيم الإسلام وأحكامه، ليرسل عليه شواظا من نار، مسلحا بقلم لا يصدأ، ولا يفل، ولا يستكين.
الغزالي… وحسن الهضيبي
> الغزالي في غضبه :
قد تخالف الغزالي أو يخالفك، في قضايا تصغر أو تكبر، وتقل أو تكثر، ولكنك -إذا عرفته حق المعرفة- لا تستطيع إلا أن تحبه، لما تحسه وتلمسه من إخلاص لله، وتجرد للحق، واستقامة في الاتجاه، وغيرة صادقة على الإسلام.
صحيح أنه أخذ على الشيخ أنه سريع الغضب، وأنه إذا غضب هاج كالبحر، حتى يغرِق، وثار كالبركان حتى يُحرق!
وقد ظهر هذا في خلافه مع الأستاذ الهضيبي -المرشد الثاني للإخوان- وما كتبه عنه في مجلة الدعوة، ونشره في كتابيه : (في موكب الدعوة) و(من معالم الحق).
وهذا ما لا يجحده الشيخ الغزالي، ومايعلمه من نفسه، ويعلمه من عايشه وعاشره.
وسر هذا أن الرجل يبغض الظلم والهوان لنفسه وللناس، ولا يحب أن يَظلم أو يُظلم، ولا أن يستخف بكرامة أحد، كما لايستخف بكرامته أحد. كما أنه لا يطيق العوج ولا الانحراف، وخصوصا إذا لبس لبوس الاستقامة، أو تستر بزي الدين، فهو الذي يقاتله سرا وعلانية.
>.. إن اللفظة الرقيقة تطوق عنقي فأستسلم، أما التحدي فإنه يهيج في طبيعتي غرائز الخصام<.
… بعد أن كتب الغزالي ما كتب من مقالات -في فترة الغضب بعد فصله من الجماعة- رأى أن يطوي بعضها فلا ينشره في كتاب، ونشر بعضها ثم حذفه، بعد أن هدأت نفسه، واستجابت لنصح بعض إخوانه.
وأبقى بعض الأشياء -على ما فيها من آثار الحدة والغضب- للتاريخ، ومع هذا عقب في إحدى الحواشي عليها بقوله :
في هذه الصفحات مرارة تبلغ حد القسوة، وكان يجب ألا يتأدى الغضب بصاحبه إلى هذا المدى، بيد أن ذلك -للأسف- ما حدث. وقد عاد المؤلف إلى نفسه يحاسبها وتحاسبه في حديث أثبته آخر هذا الباب<(حاشية ص 216 من معالم الحق).
الغزالي.. وثورة 23 يوليوز 1952
… وأدت هذه الفتن إلى فصلالغزالي ونفر معه من الجماعة، وانقسام الصف، وافتراق الكلمة، وهو الأمر الذي مكن للحاكم أن يبطش بالجماعة بطش من لا يخاف خالقا، ولا يرحم مخلوقا.
المهم أن الغزالي أدرك بعد ذلك خبث الكائدين للإسلام وأمته، وكتب في ذلك بعض الكتب المعبرة عن وجهته هذه، مثل : (كفاح دين) و(قذائف الحق) و(معركة المصحف في العالم الإسلامي) و(حصاد الغرور) و(الإسلام والزحف الأحمر) وغيرها…
وفي كتابه : (كفاح دين) كشف اللثام عن الخطط المبيتة لضرب كل تحرك للإسلام، والاستعانة على ذلك بأبناء المسلمين أنفسهم، وذكر فيه إحصاء بالمساجد التي هدمها رجال الثورة بدعوى تجميل القاهرة، ولم يبنوا بدائل لها… وسلط الضوء على ما تقوم به أجهزة الإعلام من تخريب للعقول والضمائر.
وكان قد خطر له أن يجعل عنوان هذا الكتاب : (سياسة تمويت الإسلام)، سمعت ذلك منه، ثم رأى العنوان الآخر أخف وطأة، وأدل على روح المقاومة والكفاح الكامنة في طبيعة الإسلام.
وفي كتاب : (قذائف الحق) وضع النقاط على الحروف، وفضح المؤامرات اللئيمة التي دبرت -ولا زالت تدبر- للإسلام.
الغزالي.. رجل الدعوة
عرفت في الشيخ الغزالي أنه رجل دعوة قبل كل شيء، الإسلام لحمته وسداه، وشغل نهاره، وحلم ليله، ومحور حياته كلها، الإسلام ماضيه، والإسلام حاضره، والإسلام مستقبله، فيه يفكر، وعنه يتحدث، وعليه يعول، وإليه يدعو، ومنه يستمد.
والدعوة إلى الإسلام لها كل عقله وقلبه، ولسانه وقلمه، وجهده وجهاده، لا يستطيع الابتعاد عنها إلا كما يستطيع الحوت أن يبتعد عن الماء. يعيش به،و له، وفيه، له يسالم، وله يحارب، وفيه يحب، وفيه يبغض، وله يغضب،وبه يرضى ومن أجله يصل، ومن أجله يقطع، وله يحيا، وعليه يموت، أخلص دينه لله، فأخلصه الله لدينه.
ولهذا حين يتحدث عن الإسلام، فإنما يتحدث قلبه قبل لسانه، ويعبر قلمه عما جاش به صدره، وانفعلت به حناياه. فهو رجل ظاهره كباطنه، وعلانيته كسرِّه، أكره شيء إليه نفاق الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فهم أشبه بمقابر مزوقة، في جوفها جيف منتنة!.
لا يحب الرياء الديني، ولا الرياء الاجتماعي، ولا الرياء السياسي، ويرفض كل المظاهر الكاذبة، التي تقوم عليها الحياة الدينية أو الاجتماعية، ويندد بأولئك الدجالين الذين يأكلون بالدين ولا يعملون به، ولا يعملون له، ويلعن أولئك الحكام الذين يشاركون في المناسبات الدينية، وأفئدتهم خراب من احترام شريعة الله، وآخرين يحتفلون بالمولد النبوي أو الإسراء أو الهجرة، ولم تزل أفواههم رطبة من الخمر.
الغزالي رجل دعوة مخلص لدعوته، متجرد لها، ولهذا ينفذ كلامه إلى القلوب، فيلهبها بمشاعر اليقين والحب، ومعاني الإيمان والإحسان.
وأشهد أني ما سمعت الغزالي إلا تأثرت به، وتجاوبت معه، وذلك لما لمست فيه، طوال معايشتي له، من صدق وتجرد، جعل صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله، أحسبه كذلك والله حسيبه، ولا أزكيه على الله عز وجل.
عاش الشيخ للدعوة عمره، وكانت هي أكبر همه، ومحور فكره وعمله، ولم يلهث وراء مال أو جاه، فجاءه المال والجاه بفضل من الله تعالى، وبركة الدعوة، وهو دائما يذكر ذلك، ويذكِّر به.
….ولقد عرض على الشيخ أكثر من مرة أن ينضم إلى الحزب الحاكم، وأن يرشَّح على قائمته، ونثرت أمامه الوعود، ولوّح له بالمناصب، التي ارتقى إليها مَنْ دونه علما وعملا ودعوة وجهادا وشهرة.
وزاره أكثر من كبير من المسؤولين، يحاولون أن يلينوا عريكته، ويجروا رجله إلى القيد الذهبي البراق.
ولكن الله سدد الشيخ وثبّته أمام كيدهم، فلم تلن له قناة، ولم يسل له لعاب، وظل بعيدا عن مواكب الطبل والزمر، فما يطيق الشيخ أن يسكت عن حق، فكيف يراد له أن ينطق بالباطل؟!
خطب الغزالي من أدوات الدعوة
الغزالي داعية موهوب، وقد أتاه الله أدوات عدة للدعوة، في مقدمتها : الخطابة.
ولقد استمعت إلى الشيخ الغزالي خطيبا، منذ معتقل الطور -في فبراير 1949م- إلى اليوم، فما تغيرت طريقته.
إن خطبه دائما تخدم موضوعا علميا محددا، يوضح معالمه وعناصره، ويستدل له من القرآن الكريم الذي يستحضر آىاته في كل موضوع كأنها مصنفة بين يديه، ومن السنة المطهرة، التي قرأ الكثير منها فأحسن قراءته، والفهم له، والاحتجاج به. وربما استدل بالضعيف منها -في بعض الأحيان- أخذا برأي جمهور العلماء في الاستدلال بالضعيف في الترغيب والترهيب وفضائل الأعمال.
وهي دائما مرتبطة بالواقع، تقوم عوجه، وتعالج أمراضه، وتسدد مسيرته، في ضوء تعاليم الإسلام.
والشيخ داعية وناقد اجتماعي بصير، ينفذ ببصيرته إلى ما وراء الظواهر والأعراض؛ ليكشف عن حقائق العلل والأمراض، ولا يغيره الزيف ولا التهويل الذي يغطي العيوب بتمويهات لا تخفى على اللبيب، كما لا تخفى حقيقة الداء على الطبيب.
وهو في خطبه معلِّم موجه، أكثر منه خطيبا محرضا.
وهو يخطب كما يكتب، عذوبة ورشاقة وأناقة، فخطبه كلها، قطع أدبية، لا تجد فيها حوشي الكلام، ولا سوقيه، كما لا تجد فيه التقعر والإغراب، الذي يحوجك إلى المعاجم لتبحث عن معاني ما سمعت.
الدعوة بالقلم
على أن الشيخ الغزالي ليس داعية بلسانه فحسب، بل هو داعية بقلمه كذلك، حتى إن أكثر الذين عرفوه -وأنا منهم- عرفوه أولا من نتاج قلمه، الذي بلغ إنتاجه اليوم نحو ستين كتابا.
وهو صاحب قلم متميز ببلاغته وروعة أسلوبه وقوة منطقه، جنده للدعوة من أول يوم؛ لتوضيح معالم الإسلام، وبيان حقائقه، والرد على أباطيل خصومه في الداخل، وأعدائه في الخارج، وإضاءة طريق البعث لأمته، حتى تعرف غايتها، وتستبين طريقها، بين أضاليل المضللين، وشبهات المبطلين.
ومن قرأ للغزالي أدرك أنه أمام كاتب مقالة من الطراز الأول وأن القلم في يده أشبه بالسيف في يد ابن الوليد أو صلاح الدين، فهو سيف الله المسلول على أعدائه، به يدافع، وبه يهاجم، وهو قوي في دفاعه، قوي في هجومه، دون أن يعتدي على أحد، فإن الله لا يحب المعتدين.
ربما كان عيب الشيخ الغزالي لدى بعض المتعالين والمتعالمين : أنه في غاية الوضوح، وأنه مفهوم لمن يقرؤه، لا يجد قارئه معاناة في فهمه والنفوذ إلى فكره.
إن الغزالي يخاطب بكتاباته الفطرة، ويجتهد أن يقنع العقل، ويحرك القلب؛ لهذا لا يتقعر، ولا يتكلف ولا يتعسف، وقلما يستخدم المصطلحات والكلمات التي بين قوسين، بل يحاول أن ينفذ إلى قارئه بنصاعة الأديب المبدع، ووضوح الداعية المشْبع، وله في بيان الله ورسوله أسوة حسنة.
منبر الإذاعة والتلفزة
ومن منابر الدعوة لدى شيخنا الغزالي : الإذاعة والتلفاز، وقد أذيعت له أحاديث كثيرة في أقطار شتى، في الإذاعة المسموعة، والإذاعة المرئية، عملت على تنوير العقول بالمفاهيم الإسلامية الصحيحة، وترقيق القلوب وتزكية الأنفس بالمعاني الربانية، والمثل الأخلاقية الرفيعة، ما يعمله الغيث في الأرض العطشى، يحييها بعد موتها.
وقد ظلت أحاديثه تذاع من إذاعة الصباح في السعودية لسنوات، وكذلك كانت له أحاديث مذاعة ومتلفزة في قطر والكويت والإمارات من بلاد الخليج.
وفي الجزائر كان له حديث أسبوعي مساء كل اثنين يبثه التلفاز، كان الناس في أنحاء الجزائر يترقبونه، وينصتون إليه، ويجدون فيه معاني جديدة في فهم الإسلام والحياة، تكمل ما بدأته المدرسة الإصلاحية التجديدية في الجزائر : مدرسة عبد الحميد بن باديس، والبشير الإبراهيمي، التي جعلت شعارها : {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}…
مصارعة القوى المعادية للإسلام
وهناك جانب أساسي من جوانب الدعوة عند الغزالي، وهو : مصارعة القوى المعادية للإسلام، والتصدي لتياراتها، والعمل على كشف عملائها، وهدم أوكارها، وهتك أستارها،والوقوف في وجه أخطارها وآثارها، والغزالي هنا مقاتل عنيد، لا يستسلم ولا يطأطئ ولا يلين، ولا يقبل اللقاء في منتصف الطريق، أو الرضا بأنصاف الحلول، بل صبر ومصابرة ومرابطة حتى النصر أو الشهادة.
< في وجه الاستعمار
لذا وقف في وجه الاستعمار، وكشف عن حقيقته ودوافعه، في كتابه (أحقاد وأطماع)…
< في وجه الصهيونية :
وقف في وجه الصهيونية العالمية، التي احتلت أرض النبوات، وانتهكت حرمة المقدسات الإسلامية، وشردت أبناء الأرض من ديارهم بغير حق، صنعت ذلك كله باسم التوراة، وتحت راية العقيدة اليهودية، التي جمعت اليهود المتفرقين في الأوطان، ويراد للعرب وللفلسطينيين أن يقاتلوهم بغير دين، فيدخل اليهود المعركة ومعهم التوراة، ويدخلها العرب وليس معهم القرآن، وكان للشيخ في ذلك كتابات كثيرة لا تحصى، من أبرزها ما أصدره بعد النكبة أو النكسة، وهو كتاب : (حصاد الغرور).
< في وجه التنصير :
ووقف في وجه (التنصير) الذي يريد أن يسلخ المسلمين من عقيدتهم فإن لم يقدر على إدخالهم في النصرانية اكتفى بزعزعة إسلامهم، وتشكيكهم في دينهم، وللشيخ في ذلك كتابات شتى، بأساليب متنوعة، لعل آخرها كتابه : (صيحة تحذير من دعاة التنصير)، وقد كتبه بعد أن قرأ ما صدر عن مؤتمر (كلورادو) سنة 1978م من تقرير ضخم ضم أربعين دراسة عن الإسلام والنصرانية، وهو المؤتمر الذي اجتمع بهدف تنصير المسلمين في العالم، ورصد لذلك ألف مليون دولار، وأنشأ لهذه الغاية (معهد زويمر) لتخريج متخصصين في تنصير أمة الإسلام.
< في وجه الشيوعية :
ووقف في وجه الشيوعية ومحاولاتها لغزو ديار الإسلام، وما صنعته بالمسلمين وراء الستار الحديدي من تصفيات جسدية، وحملات قمعية، وحمامات دموية، وللشيخ في ذلك كتابات كثيرة أبرزها كتاب : (الإسلام في وجه الزحف الأحمر).
< في وجه الحضارة المادية :
ووقف الشيخ في وجه مادية الحضارة الغربية، وإباحيتها الجنسية، وعصبيتها العنصرية، ومحاولات سيطرتها على حضارات العالم الأخرى، وإن لم ينكر ما فيها من عناصر إيجابية مثل العلم والتكنولوجيا وحسن الإدارة واحترام حقوق الإنسان، وخصوصا في داخل أوطانها، وله في ذلك كتابات قديمة وحديثة من أبرزها كتاب (ظلام من الغرب).
< في وجه العلمانية :
ولعل أبرز المعارك التي خاضها الشيخ، وأطولها نفسا، وأشرسها هجوما، هي معركته مع (العلمانية) اللادينية، التي تعارض حاكمية الله لخلقه، وسيادة الشريعة على الناس، وتعزل الدين عن الحياة وعن المجتمع، وتحارب الذين يدعون إلى الإسلام الشامل، وتعتبرهم دعاة الرجعية وأعداء التطور..
دعاة فتانون
يضيق الشيخ في ميدان الدعوة بمن سماهم (الدعاة الفتانين) يعني : الذين يفتنون الناس عن دين الله. وقد قال النبي لمعاذ حين طول بالناس، وهو يؤمهم في الصلاة : >أفتان أنت يا معاذ؟< وكررها ثلاثا. فهؤلاء الدعاة المنفرون أشد فتنة.
يعلم الشيخ أن أعداء الإسلام في هذا العصر أقوياء، ومع استمتاعهم بمقادير كبيرة من العلم والدهاء، ومع أنهم أحرزوا ضد الإسلام انتصارات كبيرة في أكثر من ميدان، مع هذا كله يقول الشيخ : فلست أخافهم على ديننا قدر ما أخاف على هذا الدين من متحدث جاهل، أو منافق عليم اللسان، أو سياسي يتخذ إلهه هواه.
< المتحدثون الجهال بحقائق الإسلام وحقائق العصر :
أما المتحدثون الجهال فإن قصورهم فتح علينا أبواب شرور كثيرة.
إن قصة الغرانيق لم يخترعها مبشر كذوب، وإنما روجها متحدث أحمق من جلدتنا يتكلم بلغتنا(ووقع فيها مفسرون كالنسفي).
وفرية عشق الرسول لزينب بنت جحش لم يختلقها عدو كاشح، وإنما ألفها متعالم من عندنا، خفيف العقل والحكم(ووقعت فيها مفكرة إسلامية كبيرة عادت إلى الله).
وقد اضطرب السلوك الإسلامي في بناء الأسرة، لأن حديثا موضوعا ينهى عن تعليم النساءالكتابة، وعن إسكانهن الغرف، شاع بين الناس..
وآفة بعض المتحدثين في الإسلام، أنهم يستقبلون المرويات التافهة وأذهانهم خالية أو فقيرة من الوعي بتوجيهات القرآن الكريم وهو دستور الإسلام الأول.
ولا يجوز لفقيه أن يتناول السنن الصحاح وهو جاهل بالقرآن نفسه، فكيف بما هو دون الصحيح من تلك المرويات؟
إن الصورة المكتملة والجميلة للإسلام تؤخذ من الكتاب والسنة، الكتاب أولا ثم السنة بعد ذلك.
والسنة أساسها ما تواتر ثم ما صح!! أما المرويات الضعيفة وما أكثرها فلها شأن آخر، يعرفه الراسخون في العلم.
وقد وقع في يدي كتاب يوزع في بعض العواصم الإسلامية، ويتأثر به الكثيرون، وجدت على غلافه ثلاثة أسماء (لعلماء) لهم مناصب مهمة، وطالعت الكتاب فاستغربت ما حوى من صور رديئة للإسلام وتعاليمه في قضية اجتماعية كبيرة الشأن.
هل صحيح أن البيت المسلم سجن، وأن الزوجة داخله متهمة إلى الأبد، وأن أنواعالحيطة تتخذ لمنعها من الإثم؟….
< المنافق العليم اللسان :
كما شن الشيخ غارته على المتنطعين المتزمتين من أهل العلم، الذين يحجرون على الناس ما وسع الله، ويأخذون الناس بأشد الأقوال حرجا في القضايا الاجتماعية التي تهم جماهير الناس، نجده كذلك يشدد الحملة على كل “منافق عليم اللسان” ممن يبيعون دينهم بعرض يسير من الدنيا. هؤلاء العلماء المنحلون الذين يرون الموبقات تقترف فيصادقون أصحابها، ويرون أحكام الإسلام ميتة فلا يحاولون إحياءها، ويرون أنصار الحق مستوحشين ضعافا، فلا يؤنسون وحشتهم، ولا يدعمون جانبهم.
وما ظنك بعالم دين يقف ليصفق مع المصفقين، ويهتف باسم واحد من أولئك الذين يحيون على أنقاض الإسلام ورفات المكافحين؟! إن هذا الصنف المنحل الملق لا يصلح لشيء، بل ما يصلح الدين إلا بزواله.
والدعوة الإسلامية منكوبة بالمتزمتين البله والمتملقين اللئام.
مرتكزات الفكر الدعوي عندالغزالي
يستند الفكر الدعوي عند الغزالي إلى مرتكزات أساسية، يلمسها كل من سمعه، خطيبا أو محاضرا، أو قرأه كاتبا ومؤلفا.
< أول هذه المرتكزات وأعظمها : القرآن الكريم.
فالقرآن هو مصدر الشيخ الأول، الذي يغترف منه صباحه ومساءه، فلا يشبع ولا يفتر، وهو جنته الدانية القطوف، التي يتفيأ أبدا ظلالها، ويقتطف من ثمارها، وهو الصاحب الدائم الذي يعايشه تاليا متدبرا، وشارحا مفسرا.
… والسنة النبوية المشرفة هي المصدر الثاني للشيخ، وهي مرتكزه بعد القرآن، يقتبس من مشكاة النبوة، وينهل من معين الرسالة، بها يوضح معاني القرآن، ويعمق مدلولاتها، ويفصل ما أجمله، ويعطي الأمثلة والصور التطبيقية التي حفلت بها السنة لشرح القرآن وبيانه نظرا وعملا، كما قال الله تعالى لرسوله : {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون}(النحل : 44).
… ومرتكزه الثالث : التاريخ الإنساني العام، والإسلامي الخاص، وقمته السيرة النبوية، فهي بداية تاريخ الإسلام، ونقطة انطلاقه.
والشيخ قارئ جيد للتاريخ، مدرك لوقائعه الحاسمة، وأحداثه الكبرى، ومراحله المتلاحقة وبخاصة التاريخ الإسلامي، وأسرار انتصار أمته وتفوق حضارته، ثم تراجع هذه الحضارة، وتخلف الأمة وتمزقها، وغلبة أعدائها عليها، وأسباب ذلك.
والداعية الموفق هو الذي يحسن توظيف التاريخ ووقائعه ومواقف أبطاله في خدمة دعوته، وتبليغ رسالته، والأمة الموفقة هي التي تستفيد من التاريخ، فهو ذاكرتها التي يختزن فيها ماضيها…
.. ومرتكزه الرابع : الثقافة العامة : الثقافة الدينية، والثقافة الإنسانية، فقد تخرج الشيخ في كلية أصول الدين، وهي كلية الثقافة الإسلامية المتنوعة : التفسير والحديث والعقيدة والملل والنحل والمنطق والفلسفة والتصوف وعلم النفس والتاريخ وأصول الفقه. وكان الشيخ أزهريا متمكنا متفوقا، وأكد ذلك بدراسته فيتخصص الدعوة والإرشاد، ثم أضاف إلى ذلك قراءته الخاصة، طوال حياته في مختلف حقول المعارف.
وإلى جوار هذه الثقافة الدينية والإنسانية الأصيلة نجد ثقافة أدبية ولغوية عميقة، أساسها دراسة الشيخ الأزهرية، ثم قراءاته الحرة المستمرة.
ومرتكزه الخامس : الواقع، وفقهه، عن طريق المعايشة والاطلاع، سواء كان واقع المسلمين أو واقع القوى المعادية لهم، الواقع المحلي (المصري) والواقع الإقليمي (العربي)، والواقع الإسلامي (واقع البلاد الإسلامية) والواقع الدولي (خارج عالم الإسلام)…
خصائص الداعية ومؤهلاته عند الغزالي
ليس كل إنسان يصلح أن يكون داعية، فقد يكون المرء عالما كبيرا، ولا يكون داعية كذلك. فالداعية له مؤهلات أو خصائص قد لا تتوافر لغيره من العلماء الباحثين (الأكاديميين). والدعاة متفاوتون في حظهم من هذه الخصائص، وللشيخ الغزالي من هذه الخصائص، القدح المعلى.
1- العقل العلمي المبصر :
وأول هذه الأدوات المطلوبة : العقل الواعي البصير، الذي يستطيع أن يدعو بالحكمة، {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا}(البقرة : 269)، فقد قال تعالى : {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}(النحل : 125).
وهذا العقل هو الذي يمكن صاحبه من الدعوة على بصيرة كما أمر الله تعالى : (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني}(يوسف: 108).
هذا العقل هو الذي يستطيع أن يوظف ما يقرؤه في خدمة الدعوة التي يؤمن بها، سواء كانت قراءة في الدين، أم قراءة في الأدب، أم قراءة في العلم.
وهذا العقل هو الذي يستطيع أن يوظف التاريخ، ويوظف الواقع، ويوظف الثقافة كلها، في سبيل الدعوة والرسالة.
وقد أوتي الشيخ هذا العقل البصير الناقد، الذي يرفض التقليد الأعمى، سواء كان تقليدا للشرق القديم أم للغرب الجديد، ولا يلقي زمامه لأحد ليقوده كما يشاء دون أن يدري إلى أي وجه هو ذاهب، بل هو عقل حر متفتح….
2- النفس الشاعرة :
لم يقل الشيخ الغزالي الشعر كلاما موزونا مقفى، ولكنه يحمل روح الشاعر، ونفس الفنان، الذي يتفاعل مع كل ما حوله، ويرى في كل نبتة في الأرض، أو نجيمة في السماء، روحا توحد الله، ولسانا يسبح بحمد الله.
وكم له من كلمات صورتها صورة النثر، وروحها روح الشعر.
ومن رأيه : إنه لا يستطيع أن يخدم الإسلام بحق إلا ذو نفس شاعرة.
.. وكم قلت في مناسبات مختلفة : إن الغزالي موهبة أدبية من طراز نادر، ولو قدر له أن يتفرغ للأدب، لكان من أعظم الأدباء البارزين في العالم العربي، ولسبق اسمه كثيرا من الأسماء المعروفة..
3- الروحانية الدافقة :
ومن الخصائص أو المؤهلات البارزة عند الغزالي : روحانيته الغامرة الدافقة.
وهذه الروحانية ضرورية لكل من يحدث الناس عن الله جل جلاله، ويدعوهم إلى وصل حبالهم به، وربطهم بهُدَى كتابه الكريم، وهدى رسولهالعظيم .
وهذه الروحانية الدافقة الصادقة لها مصدر فذ أوحد، هو حسن معرفة الله تعالى،وصدق الإيمان به، واليقين بلقائه وحسابه وجزائه، واستحضار القيامة كأنها رأى عين.
هذه الروحانية ليست مجرد دعوى تدعى، ولا محض كلام يقال، أو شعار يرفع، أو مظاهر تخدع، وليس وراءها تقوى حقيقية. فالتقوى إنما هي خشية تعمر القلب، وليست عبارات يتشدق بها اللسان. والرسول يشير إلى صدره ويقول : >التقوى ها هنا<، ويكررها ثلاثا. والقرآن يضيف التقوى إلى محلها الأصيل، إذ يقول : {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}(الحج : 32).
المدار إذن على صدق المعرفة والإيمان بالله تباركت أسماؤه. يقول الغزالي : >درجات المؤمنين في معرفة الله متفاوتة إلى حد بعيد<…
الغزالي.. رجل القرآن
الشيخ الغزالي رجل قرآني، فهو مع القرآن أبدا، يديم القراءة له، والتأمل فيه والتدبر لآياته.
حفظ الشيخ القرآن حفظا جيدامنذ صباه، فقلما تند منه آية أو كلمة، أوتلتبس عليه آية أخرى، وهو يتلوه آناء الليل، وآناء النهار، ويقرأ ما تيسر منه في صلواته -إماما أو مأموما أو منفردا- من حيث وقف وِرْده. ولم أره احتاج إلى المصحف الشريف للقراءة أو للمراجعة، إنما مصحفه صدره.
وهو دائم التدبر لكتاب الله، إيمانا منه أن ثمرة التلاوة التدبر والتذكر، كما قال الله تعالى في وصف القرآن : {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب}(ص : 29).
وهو لا يتعامل مع القرآن بعقله وحده، بل بعقله وقلبه معا. وحين كنا نستمع إليه في صلاة التراويح، ونحن في معتقل الطور، كنا نحس أن للرجل حالا مع القرآن، يستبشر بوعده، ويرتعش من وعيده، ويتجاوب مع قصصه، ويحيا في عبره وأيام الله فيه، فتلاوته ليست تلاوة محترف ولا غافل، بل تلاوة عقل يقظ، وقلب مشرق، ووجدان حي…
الدراسات القرآنية للشيخ
وللشيخ في الدراسات القرآنية المحض جملة كتب.
منها : (نظرات في القرآن) وهو كتاب قديم يتحدث عن بعض علوم القرآن بأسلوب جديد.
ومنها : (المحاور الخمسة للقرآن الكريم) وهو من كتبه الأخيرة، التي بين فيها المحاور الأساسية التي تدور حولها سور القرآن وآياته. وهي : الله الواحد.. والكون الدال على خالقه.. والقصص القرآني… والبعث والجزاء…. والتربية والتشريع.
ومنها : (التفسير الموضوعي للقرآن) وفيه يتحدث عن كل سورة من السور باعبتارها وحدة تدور حول موضوع معين، وهو يحاول أن يرسم (صورة شمسية) لها، وأن يربط أوائل السورة بأواخرها، ويصل بين أطرافها وأوساطها، وأن يتعرف على الروابط الخفية التي نشدها كلها. وللشيخ في هذا المقام نظرات جديرة بالتأمل.. وفي مقدمة تفسيره ذكر أنه تأسى في ذلك بالعلامة الشيخ محمد عبد الله دراز، عندما تناول سورة البقرة -وهي أطول سور القرآن- فجعل منها باقة ملونة نضيدة(وذلك في كتابه القيم : النبأ العظيم). وهو أول تفسير موضوعي لسورة كاملة فيما أعتقد…
الغزالي مدافعا عن السنة
وما يؤسف له أن كثيرا من الناس يجهل الموقف المبدئي للشيخ الغزالي من السنة، وهو موقف الالتزام الكامل بها، والمحاماة عنها، والاشتباك مع خصومها، بقلمه البليغ، وبيانه الدفاق. ولكم شدد النكير في أكثر من كتاب له على الذين يزعمون الاستغناء بالسنة عن القرآن، مسفها رأيهم، ومضللا اتجاههم. كما حمل في الوقت نفسه على الذين يخوضون في السنة، ويتحدثون عنها، دون أن يعايشوا القرآن، ويضربوا في معرفته بسهم وافر.
< منزلة السنة من القرآن :
وقد تعرض لذلك مبكرا في كتابه : (فقه السيرة) مبينا (منزلة السنة من الكتاب) فقال : >والقرآن هو قانون الإسلام، والسنة هي تطبيقه، والمسلم مكلف باحترام هذا التطبيق تكليفه باحترام القانون نفسه، وقد أعطى الله نبيه حق الاتباع فيما يأمر به وينهى عنه لأنه -في ذلك- لا يصدر عن نفسه بل عن توجيه ربه، فطاعته هي طاعة لله، وليست خضوعا أعمى لواحد من الناس، قال الله عز وجل : {من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسناك عليهم حفيظا}(النساء : 80)…
< خلاصة الموقف من السنة :
والخلاصة من كل ما ذركناه هنا تبدو للمنصف فيما يلي :
1- أن الغزالي يؤمن إيمانا لاريب فيه بأن السنة هي المصدر الثاني للإسلام، ولا يشك في ذلك من قرأ كتبه منذ (الإسلام والأوضاع الاقتصادية) إلى آخر كتبه.
2- أن الغزالي جرد قلمه للدفاع عن حجية السنة، في مواجهة المشككين فيها والمجترئين عليها، كما تجلى ذلك في أكثر من كتاب له.
3- أن الغزالي يحمل قلبا يفيض حبا لرسول الله ، ويراه النموذج الذي تجسد فيه الكمال البشري، وتجمعت فيه مواريث النبوات، وفضائل النبيين الذين هداهم الله فاقتدى خاتمهم بهداهم.
4- أن كتب الغزالي ومقالاته وخطبه ومحاضراته، منذ أمسك بالقلم ليكتب،ومنذ ارتقى المنبر ليخطب، مملوءة بالاستشهاد بالحديث الشريف والاستناد إلى السنة القولية والفعلية والتقريرية.
5- أن الغزالي إذا رد بضعة أحاديث -صحت عند غيره- لاعتبارات دينية وعلمية، وعقلية ثبتت عنده -لا لهوى عنده، ولا لاحتقار للوحي والرسالة والرسول- فهذا لا يسقط اعتباره، فما من إمام من الأئمة إلا رد من الأحاديث ما ثبت عند الآخرين، لاعتبارات رآها، وإن رفضها غيره.
وهذه الحقائق كلها بينة واضحة وضوح الشمس، لا يجحدها إلا أعمى أو مكابر.
وهبني قلت : هذا الصبح ليل
أيعمَى العالمون عن الضياء؟!
يقول الشيخ رحمه الله في مقدمة كتابه : (السنة النبوية) في طبعته السادسة : >وقد شتمني بعض الناس، فوجدت الإعراض أولى، ومَن مِن الأنبياء لم يشتم؟ فليتأس بهم أتباعهم في الصبر والتجاوز….<.
فهم الشيخ لحديث : >لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة<
لقد قالوا : إنه خرج على النص في قضية تولي المرأة الوظائف العامة. وهذا معارض للحديث الذي رواه البخاري عن أبي بكرة >لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة<.
وأقول : إن الشيخ هنا لم يرد النص، وإنما أوله بأنه ورد في مناسبة معروفة، وفي سياق خاص، فلا ينبغي أن يعدى به عن موضعه.
…وفي ضوء هذا الفهم نظر الشيخ إلى حديث أبي بكرة المذكور، قائلا : >ونحب أن نلقى نظرة أعمق على الحديث الوارد، ولسنا من عشاق جعل النساء رئيسات للدول أو رئيسات للحكومات! إننا نعشق شيئا واحدا، أن يرأس الدولة أو الحكومة أكفأ إنسان في الأمة.
وقد تأملت في الحديث المروي في الموضوع، مع أنه صحيح سنداً ومتنا، ولكن ما معناه؟.
عندما كانت فارس تتهاوى تحت مطارق الفتح الإسلامي كانت تحكمها ملكية مستبدة مشؤومة :
الدين وثنيٌّ! والأسرة المالكة لا تعرف شورى، ولا تحترم رأيا مخالفا، والعلاقات بين أفرادها بالغة السوء. قد يقتل الرجل أباه أو إخوته في سبيل مآربه. والشعب خانعٌ منقاد.
وكان في الإمكان، وقد انهزمت الجيوش الفارسية أمام الرومان الذين أحرزوا نصرا مبينا بعد هزيمة كبرى، وأخذت مساحة الدولة تتقلّص : أن يتولى الأمر قائد عسكري يقف سيل الهزائم، لكن الوثنية السياسية جعلت الأمة والدولة ميراثا لفتاة لا تدري شيئا فكان ذلك إيذانا بأن الدولة كلها إلى ذهاب..
في التعليق على هذا كله قال النبي الحكيم كلمته الصادقة، فكانت وصفا للأوضاع كلها..
ولو أن الأمر في فارس شورى، وكانت المرأة الحاكمة تشبه “جولدا مائير” اليهودية التي حكمت إسرائيل، واستبقت دفة الشؤون العسكرية في أيدي قادتها، لكان هناك تعليق آخر على الأوضاع القائمة…
وما الذي جعل الشيخ يتجه بالحديث هذه الوجهة، ويفهمه هذا الفهم، هناك أمران ساقاه إلى ذلك. أولهما : الحديث لا يناقض القرآن : إن الوحي لا يناقض بعضه بعضا، والسنة لا يمكن أن تناقض القرآن بحال.
فإن النبي قرأ على الناس في مكة سورة النمل، وقصّ عليهم في هذه السورة قصة ملكة سبأ، التي قادت قومها إلى الإيمان والفلاح بحكمها وذكائها، ويستحيل أن يرسل حكما في حديث يناقض ما نزل عليه من وحي!.
… وثاني الأمرين : أن الحديث النبوي -كما لا يناقض القرآن- لا يمكن أن يناقض التاريخ الصحيح، والواقع المشاهد. يقول الشيخ : >إن انجلترا بلغت عصرها الذهبي أيام الملكة “فيكتوريا”، وهي الآن بقيادة ملكة ورئيسة وزراء(أيام كانت مارجريت تاتشر هي رئيسة الوزراء) وتعدّ في قمة الازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي. فأين الخيبة المتوقعة لمن اختار هؤلاء النسوة؟
وقد تحدثت في مكان آخر عن الضربات القاصمة التي أصابت المسلمين في القارة الهندية على يدي “أنديرا غاندي” وكيف شطرت الكيان الإسلامي شطرين فحققت لقومها ما يحبون!.
> الشيخ الغزالي كما عرفته : رحلة نصف قرن -بتصرف ط 1 – 1997م دار الوفاء -مصر
د.يوسف القرضاوي