الجهاد جهادان كما هو معروف، فهناك الجهاد الأصغر، وهناك الجهاد الأكبر، ولعل وصف النوع الثاني بالأكبر راجع إلى كونه جهادا للنفس الأمارة بالسوء، وإلى كونه جهادا مستمرا باستمرار حياة الإنسان، ومعاناة لا هوادة فيها، مما يجعله دائما في امتحان متواصل، وهو امتحان يقوم على ثلاثة معايير كبرى، قد يخرج منها الإنسان ناجحا متساميا عزيزا أبيا، وقد يخرج منها مندحرا مخزيا، إنها الثالوث المتمثل في : السلطة والمال والمرأة أو الجنس، ما لم يحصن نفسه عقديا بما يحول بينه وبين هذه الموبقات التي قد تدفع به إلى الهاوية، إن هو ضعف أمام سحرها وبريقها الخادع. فإن شئت أن تمتحن شخصا فمكنه من إحدى هذه المغريات أو أكثر.
ومدار الأمر في هذا الامتحان على الصراع بين النفس والعقل، وهما قوتان طبيعيتان ركبهما الله عز وجل في الناس ليبلوهم أيهم أحسن عملا، فالنفس دافعها الشهوة، وهيأمارة بالسوء، والعقل دافعه الحكمة، وهو حافز على العدل، فمن أطاع نفسه مال مع نزواته، وكان ما كان من النتائج التي تتحدد خطورتها أو بساطتها بالدور الذي يقوم به هذا المغلوب على أمره، وبالمهمات المسندة إليه في المجتمع، وبما هو موكول إليه في صنع القرار أو تنفيذه، ومن أطاع عقله مال إلى العدل والحكمة، وقهر النزوات وقمع الشهوات، فكان ما كان من النتائج الباهرة التي تسمو به بين الناس وترفع مجتمعه بين المجتمعات، وتجعله بانيا موفقا ناجحا في امتحان الجهاد الأكبر.
إذا كان انتصار النفس دافعا إلى قبح المعصية، وكان انتصار العقل باعثا على السمو والاتزان والعدل، فإن الأمر ليس عشوائيا أو متروكا للصدفة، ولما في نفس كل فرد من نوازع وطبائع، وإنما هو مرتبط بالتربية، والتربية البناءة في حاجة إلى الرياضة وصحة المعرفة وحسن الاختيار وصواب التمييز : ماذا نريد أن نكون ؟ وأي نوع من المواطنين نحتاج ؟
وهذا نص نختاره في هذا السياق، وهو عبارة عن نفحة من نفحات المفكر ابن حزم، تدعونا إلى التأمل في مكوناتها وطبيعتها وآفاقها، وهي مستمدة من كتابه “طوق الحمامة” الذي ألفه في الحب الذي يجمع بين الناس، ويربط بين الإنسان وربه، والنص من الباب الذي جاء تحت عنوان : (باب قبح المعصية)، فلنقرأ ولنتأمل ولنفكر مليا، ثم نختار ونحكم ونميز ونتساءل : أي السبيلين أصلح وأنفع وأجدى ؟ وهل ما يشهده العالم اليوم من خروقات واعتداءات وتجاوزات وتطاولات باسم محاربة الداء بالداء إلا نتيجة حتمية لغلبة وطغيان نزواتها واستفحال شهواتها وتعامي البصائر عن نور العقل وضابط العدل ؟ فكيف نحد من هذا الجموح المستشري هنا وهناك ؟ أبإفساح المجال للنفس وما تريد وتشتهي من مال وبنين وسلطة وسيادة وتحكم و…. و….؟ أم بالانضباط وتحكيم العقل وطلب العدل بموضوعية ونزاهة وشفافية، وحقن للدماء إلا بالحق وصيانة للأموال، وحماية للنفوس إلا بالعدل. يقول أبو محمد علي بن حزم رحمه الله تعالى : “وكثير من الناس يُطيعون أنفسهم ويعصون عقولهم، ويتبعون أهواءهم، ويرفضون أديانهم، ويتجنبون ما حض الله تعالى عليه ورتَّبَه في الألباب السليمة من العفة وترك المعاصي ومقارعة الهوى ويخالفون ربهم، ويوافقون إبليس فيما يحبه من الشهوة المعطبة فيواقعون المعصية في حبهم. وقد علمنا أن الله عز وجل ركَّب في الإنسان طبيعتين متضادتين :
> إحداهما لا تشير إلا بخير ولا تحض إلا على حسن ولا يتصور فيها إلا كل أمر مرضي، وهي العقل، وقائده العدل.
> والثانية : ضدّ لها لا تشير إلا إلى الشهوات، ولا تقود إلا إلى الردى، وهي النفس، وقائدها الشهوة. والله تعالى يقول : {إن النفس لأمارة بالسوء} وكنى بالقلب عن العقل فقال : {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}، وقال تعالى : {وحبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم}وخاطب أولي الألباب.
فهاتان الطبيعتان قُطبان في الإنسان، وهما قوتان من قوى الجسد الفَعَّالِ بهما، ومطرحان من مطارح شُعاعات هذين الجوهرين العجيبين الرفيعين العُلْوِيَّيْن. ففي كل جسد منهما حظّه على قدر مُقابلته لهما في تقدير الواحد الصمد، تقدّست أسماؤه حين خلقه وهيأه. فهما يتقابلان أبدا ويتنازعان دأبا، فإذا غلب العقل النفس ارتدع الإنسان وقمع عوارضه المَدخولة واستضاء بنور الله واتبع العدل، وإذا غلبت النفسُ العقلَ عميت البصيرة، ولم يصح الفرق بين الحسن والقبيح، وعظم الالتباس وتردَّى في هُوَّة الرَّدى ومَهْواة الهلكة، وبهذا حسن الأمر والنهي، ووجب الاكتمال، وصح الثواب والعقاب، واستحق الجزاء.
والروح واصل بين هاتين الطبيعتين، ومُوصِّل ما بينهما، وحامل الالتقاء بينهما، وإن الوقوف عند حد الطاعة لمعدوم إلا بطول الرياضة وصحة المعرفة ونفاذ التمييز”(انتهى كلام ابن حزم)
إن الرؤية واضحة، والمنهج بَيِّنٌ، والنتائج جلية، ولكن السؤال الملح هو : كيف ننتصر في الجهاد الأكبر؟ وكيف نتفاهم لنتعايش ؟
د.علي لغزيوي