مدونة الأسرة بعد عام من التطبيق، الحصيلة والآفاق
يمكن القول ـ بدايةـ إن المدونة كمشروع مجتمعي كبير، أهدافها جاءت في الخطاب الملكي أمام البرلمان يوم 10 أكتوبر 2003 وهي :
- رفع الحيف عن النساء
- وحماية حقوق الأطفال
- وصيانة كرامة الرجل
كل هذا في ظل المساواة والعدل والتسامح والتضامن وهو ما أكده جلالة الملك في خطابه يوم 29/01/2003 بالإعلان عن إحداث صندوق التكافل العائلي.
ومدونة الأسرة كقانون أوكل المشرع أمر تنفيذ مقتضياتها وأحكامها لعدة مؤسسات كقاضي الأسرة وقاضي المستعجلات والنيابة العامة.
هذه الأخيرة تشكل موضوع هذه المداخلة نظرا لدورها المهم في القضاء المدني بصفة عامة، وقضاء الأسرة بصفة خاصة.
لكن لصعوبة حصر هذا الدور فإننا سنركز على بعض الجوانب العملية المهمة انطلاقا من السؤال التالي : هل فعلا تحققت فلسفة المشروع من خلالالدور الذي أناطه بمؤسسة النيابة العامة في قضايا الأسرة، وهل تم تفعيل هذا الدور؟
وبالتبعية تفعيل نصوص المدونة، وهل تم السهر على تطبيقها والدفاع عن مبادئها الأساسية وذلك من خلال تقييم دور النيابة العامة خلال هذه السنة التي مرت على تطبيق المدونة.
فإذا كان الكثير من الباحثين يرون أن مدونة الأسرة لا يمكن تقييمها في ظرف سنة واحدة فإننا نرى أنه يمكن تقييم دور النيابة العامة على الأقل على مستوى قسم قضاء الأسرة لدى ابتدائية وجدة.
إن أول ما يثير انتباه الدارس المحلل لمقتضيات المدونة في حلتها الجديدة التي دخلت حيز التطبيق بتاريخ 5 فبراير 2004، ما جاءت به المادة الثالثة والتي تنص على أن النيابة العامة طرف أصلي في جميع القضايا الرامية إلى تطبيق أحكام هذه المدونة، كما أن المادة المذكورة أثارت عدة تساؤلات وإشكالات من طرف المهتمين والدارسين والممارسين من قضاة ومحامين عن ماهية وطبيعة دور النيابة العامة في قضايا الأسرة من خلال المادة 3.
لذلك كان حري بنا أن نتساءل عن طبيعة دور النيابة العامة في قضايا الأسرة والإشكالات التي يطرحها تدخلها في القضايا المذكورة وحصيلة هذا التدخل من خلال لغة الأرقام ومعوقات هذا التدخل وآلياته.
طبيعة دور النيابة العامة
إذا كانت الغاية الأساسية التي توخاها المشرع من خلال مقتضيات مدونة الأسرة هي الحفاظ على كيان مجتمعنا من التشتت والانحلال فإن إعطاء النيابة العامة دورا أصيلا ورئيسيا في قضايا الأسرة يصب في نفس الخانة. وإذا كانت مقتضيات المادة الثالثة تبدو من الناحية النظرية واضحة، فإنها من الناحية العملية يكاد هذا الوضوح يتبدد ويتحول إلى غموض، وخاصة عندما ننظر إلى المادة 9 من قانون المسطرة المدنية المعدل بمقتضى قانون 72/03 والتي تنص على أنه يجب أن تبلغ إلى النيابة العامة الدعاوى الآتية من بينها القضايا المتعلقة بالأسرة.
إن هذه الازدواجية المحدثة بمقتضى مدونة الأسرة وظهير المسطرة المدنية تثير جملة من الإشكاليات خاصة على المستوى العملي : كيف يمكن تفسير كون النيابة العامة طرفا رئيسيا في قضايا الأسرة؟ وفي الوقت نفسه يتم تبليغ قضايا الأسرة إليها، والحال أنها طرف رئيسي؟
فإذا كانت طرفا أصليا فإن حضورها في قضايا الأسرة أمر واجب دون الحاجة إلى التنصيص على تبليغ تلك القضايا. وإذا تم التنصيص على تبليغ النيابة العامة تلك القضايا، ليس من المنطق في شيء القول إن النيابة العامة طرف أصلي. وهل حضورها إلزامي في جميع جلسات قضايا الأسرة أم لا؟
إذا كانت هذه التساؤلات تجد ما يبررها من الناحية النظرية فإن المشروع في إطار مدونة الأسرة قد حسم النقاشات الفقهية ـ حسب التعبير القانوني ـ حينما اعتبرها طرفا أصليا لغاية هي أن تبدي رأيها بكل حرية وحتى لا يقع تجريحها. وكذلك من خلال العمل القضائي، حيث عقدت وزارة العدل عدة ندوات حول مدونة الأسرة، استطاعت تجاوز ذلك بتوحيد العمل في مختلف المحاكم بالمملكة بعد إقرار مبدأ أن النيابة العامة إذا كانت طرفا أصليا فإن حضورها إلزامي، إلا إذا تعذر حضورها فيُكتفى بتقديم استنتاجاتها بخصوص الملفات المحالة إليها.
حصيلة تدخل النيابة العامة
في قضايا الأسرة
من خلال رصد لبعض الإحصائيات المسجلة لدى النيابة بقسم قضاء الأسرة بابتدائية وجدة أعرض إلى حصيلتين : حصيلة في إطار مدونة الأسرة وحصيلة في إطار النصوص المرتبطة بها وخاصة المادة 53 حيث سجل 480 حالة تمت تسوية 430 حالة من طرف النيابة العامة أي 89.58% . وبخصوص قضايا كفالة الأطفال المهملين سجلت من 1/1/2004 إلى 8/2/2005، 139 حالة تم إنجاز 132 حالة منها، أي 94.96%.
إذن من خلال هذا الاحصاء يظهر أن تدخل النيابة العامة في قضايا الأسرة كان إيجابيا وتم تفعيله بشكل فعال، وهوما يعكس الرأي السديد للمشرع الذي جعل من النيابة العامة طرفا أصليا في قضايا الأسرة، مساهما في امتصاص الفكرة الخاطئة للمواطن ونظرية السلبية للنيابة العامة كسلطة اتهام(أي المُغَرِّق حسب التعبير الشعبي).
آليات تدخل النيابة العامة ومعوقاته
إذا كان دور النيابة العامة لا يثير أي إشكال في القضايا المحالة عليها كالنفقة والتطليق والطلاق وغيرها أو تلك القضايا التي تبادر لرفعها بصفتها مدعية كحالة طلب إسقاط الحضانة أو اختيار الأصلح لها وطلب استصدار قرار بإثبات حياة المفقود أو إثبات التاريخ الحقيقي للوفاة كما هو في المواد 75-76. أو بالاضافة إلى تدخلها كطرف أصلي وبصفتها مدعية في قضايا الحالة المدنية وقضايا كفالة الأطفال المهملين بمقتضى قانون 01/15 أو تلك القضايا التي ترفع ضدها بصفتها مدعى عليها.
فإذن المشاكل التي تعوق عملها في بعض الأحيان هو ندرة آلية تدخلها لذلك إن التدخل لا يقتصر على الإدلاء بمستنتجات كتابية أو شفوية… بل إن دورها الحقيقي يتجلى في تدخلها خارج الملفات بل خارج المحكمة كما هي حالة إرجاع أحد الزوجين المطرود من بيت الزوجية، إذ يثور الإشكال حول الكيفية التي تعالج بها النيابة العامة مسألة تدخلها بوضع آليات هذا التدخل إذا ما استثنينا عنصر الشرطة القضائية، ذلك أن اعتماد الشرطة القضائية في إرجاع المطرود من بيت الزوجية قد يكون في غالب الأحيان غير مُجْد خاصة وأن هذا الجهاز لم يتلق أي تكوين في قضايا الأسرة حتى تتمكن بشكل فعال من إرجاع المطرود وإعادة الدفء إلى الأسرة ولَمِّ شملها. وتبقى النيابة العامة تتبع الإجراءات التي تتم بها العودة والإرجاع دون معرفة ظروفها.
إذا بات من الضروري التحقيق في وضع آليات أخرى إلى جانب الشرطة القضائية للتدخل في مثل هذه الحالات فطبيعة المشاكل التي تعرفها الأسرة المغربية تتطلب في غالب الأحيان تدخل جهات أو أجهزة عمومية أو غير عمومية بإمكانها فهم المشاكل التي تعترض السير السليم للأسرة ولديها وسائل الإقناع الكفيلة بإعادة الطرفين والعلاقة الزوجية إلى الحالة التي كانت عليها قبل وقوع الخلاف، ونقترح على سبيل المثال : تكوين أجهزة في هذا الموضوع وإدراج المساعدات الاجتماعيات كآلية من آليات تدخل النيابة العامة.
وفي هذا الصدد نرى أن على النيابة العامة وحتى يكون تطبيق مقتضيات المادة 53 منسجما مع فلسفة وهدف مشروع المدونة، أن تتعامل مع مقتضيات المادة المذكورة بشكل إيجابي ودون التسرع في اتخاذ أي إجراء ينعكس أثره السلبي على العلاقة الأسرية حيث يجب أن لا يكون طرد الزوج من بيت الزوجية(بدون مبرر)، ووجود مبرر من عدمه يخضع بطبيعة الحال لمبدأ الملاءمة وتقدير النيابة العامة من أجل التدخل لرد المطرود لبيت الزوجية أم لا. وعبارة (دون مبرر) تطرح أكثر من إشكال، ذلك أنه في حالة وجود أسباب مبررة لحالة الطرد، هل يمكن القول بعدم تدخل النيابة العامة؟ الجواب يكمن في قناعة النيابة العامة التي تكيف واقع الطرد وفق ظروف وملابسات كل حالة على حدة. النيابة العامة كطرف رئيسي في قضايا الأسرة، وبالنظر لدورها الاجتماعي والإنساني لحماية الطرف المتضرر، منوط بها معالجة حالات واقعية. وقد يثور التساؤل في الحالة التي لا يرغب فيها المطرود الرجوع إلى بيت الزوجية ويكتفي بالمطالبة بحاجياته وأمتعته الخاصة، وكم هي حالات كثيرة تعرض على أنظار النيابة العامة، فهل بإمكان النيابة العامة التدخل لتمكين المطرود من أمتعته؟ نرى أنه في هذه الحالة يجب التمييز بين الملابس الضرورية وبين متاع البيت، ففي الحالة الأولى لا بد من تمكين المطرود منها شريطة تدوين ذلك في محضر رسمي للرجوع إليه عند الحاجة، في حين يبقى الفصل في المتاع للمحكمة وفقا للمادة 34 من مدونة الأسرة،
ومن بين الإشكاليات التي تطرح كذلك ما تنص عليه المادة 54 من مدونة الأسرة والمتعلق بحقوق الأطفال الواجبة على أبويهم. فما هي الوسائل الموضوعة رهن إشارة النيابة العامة للسهر على حماية هذه الحقوق ما دام المشرع أوكل إليها أمر السهر على تنفيذ مقتضيات الاحكام المتعلقة بالحقوق الواجبة للأطفال على أبويهم؟.
ما هي الوسائل الموضوعة رهن إشارة النيابة العامة للسهر على حماية هذه الحقوق؟
هل يتم عن طريق الاستدعاء إلى النيابة العامة أم اللجوء إلى جهاز الشرطة القضائية للإجبار على التنفيذ؟
لنفترض أن الأب امتنع عن تنفيذ الالتزامات المترتبة عليه، المتعلقة بأداء تكاليف سكن المحضون المؤجر إليه، واستصدر المكري حكما بإفراغ المحضون لعدم أداء واجبات الكراء من طرف الأب، وقامت النيابة العامة بجميع الوسائل لإجبار الأب لتنفيذ التزاماته ولو عن طريق الإكراه البدني، فما وضعية الطفل في هذهالحالة؟ وما دور النيابة العامة في إنقاذ المحضون من التشرد؟
لا نجد حلا لهذا الإشكال في إطار مدونة الأسرة وإنما يبقى ذلك راجع إلى حنكة واجتهاد ممثل النيابة العامة.
ذ.عبد الرزاق نجي
-بتصرف-
(ü) ألقيت هذه المداخلة في ندوة : مدونة الأسرة بعد عام من التطبيق 18/17 فبراير 2005 -كلية الحقوق وجدة.