من المواقف المؤثرة للسلطان الأندلسي المخلوع تلكم الرسالة الرقيقة التي بعث بها إلى الشيخ الوطاسي السلطان بفاس حينذاك، وهي مفعمة بالحزن والأسى، وجديرة بالتأمل والتحليل واستخلاص العبر والدروس والدلالات، وقد أثبت المقري نصها الكامل في كتابيه ( نفح الطيب) و(أزهار الرياض)، وهي من إنشاء الكاتب البارع المجيد البليغ إمام الصناعة، خاتمة الأدباء بالأندلس أبي عبد الله محمد بن عبد الله العربي العُقيلي، على لسان السلطان المخلوع، وقد سماها:(الروض العاطر الأنفاس في التوسل إلى المولى الإمام سلطان فاس)، مزج فيها بين الشعر والنثر، وتفنن في وصف الحال ببليغ المقال، قال أبو العباس المقري بعد نهاية نص هذه الرسالة التوسلية المؤثرة الحزينة: ” انتهى الكتاب، وأوردته بطوله لما فيه من ذكرى واعتبار، بما فعلته الدنيا مع الملوك الأعاظم الكبار، ولأن الكلام جر إليه، والله تعالى الكفيل بخلاص من توكل عليه”. ( أزهار الرياض:1/ 102).
وهذه الرسالة التوسلية بمثابة طلب اللجوء السياسي بلغة اليوم، مع ما فيها من الاعتذار تارة والنصح تارة أخرى، ومما ورد فيها شعرا قوله:
بك استجرنا ونعم الجار أنت لـمـن
جـار الزمـان عليه حور منتـقـم
حتى غدا ملكه بالرغـم مستـلــبا
وأفظـع الخطب ما يأتي على الرغـم
ونقل المؤرخ الناصري في الاستقصا عن المؤرخ مانويل ما يفيد أن وفاة السلطان الأندلسي المخلوع كانت في الحرب التي دارت بين الوطاسيين والسعديين الثائرين عليهم، قال الناصري: “وزعم مانويل أنه هلك في وقعة أبي عقبة في حرب الوطاسيين والسعديين، قال( أي مانويل) : (ولم يحسن هذا الرجل أن يدفع عن ملكه فدفع عن ملك غيره)”(الاستقصا : 4/ 135).
إن هذا السلطان قد ارتبط اسمه في تاريخ الأندلس بوصمة العار التي ظلت تلاحقه، لأنه فرط في ملكه وسلم بلاده وخرج منها مرغمامقهورا عاجزا، يطلب النجاة بحياته، تملأ نفسه المرارة والأسى، ويذكر المقري نسب هذا السلطان وهو يتحسر ويأسف على مصيره المحزن بقوله:
” والسلطان المذكور الذي أُخذت على يده غرناطة هو أبو عبد الله محمد الذي انقرضت بدولته مملكة الإسلام بالأندلس ومُحيت رسومها، ابن السلطان الحسن ابن السلطان سعد ابن الأمير علي ابن السلطان يوسف ابن السلطان محمد الغني بالله واسطة عقدهم، ومشيد مبانيهم الأنيقة، وسلطان دولتهم على الحقيقة، وهو المخلوع الوافد على الأصقاع المرينية بفاس، العائد منها لملكه في أرفع الصنائع الرحمانية العاطرة الأنفاس، وهو سلطان لسان الدين ابن الخطيب…” (نفح الطيب:4/528).
وجرى حديث بيني وبين الباحث الإسباني حول مجموعة من الرموز التاريخية، فحدثني عن زيارته لقبر يوسف ابن تاشفين بمراكش ببساطته التي لا تناسب في نظره مكانة هذا الخليفة الكبير، وعن ضريح المعتمد بن عباد، وكيف لا يستغلان ولا يوظفان سياحيا لاستجلاب السياح الإسبان خاصة، وتذكرت بحديثه إحدى زياراتي لضريح الخليفة المرابطي يوسف بن تاشفين، ولم يحط ببناء يقيه أذى المارة إلا منذ وقت قريب، ولكن مدخله مغلق في الغالب، بحيث لا تتيسر للزائرين المغاربة وغيرهم، ومنهم الإسبان، وقد أكد استغراب بعضهم المفارقة العجيبة بين حال ضريحه وبساطته اليوم، وبين سمعته التي طبقت شهرتها الآفاق، وقد كانت فرائص الإسبان ترتعد لمجرد ذكر اسمه حينذاك، ولا تزال الأجيال الحالية تتحدث عن بطولته وجرأته وشهامته وقدرته العجيبة على السيطرة على مختلف ممالك الطوائف وتوحيد الأندلس مع المغرب، وقهر الممالك الإسبانية وبث الرعب في نفوسها،وإن كانت الرواية الإسبانية قد حاولت تشويه صورته، وتأثر بمزاعمهم عدد من الباحثين العرب المنبهرين بكل ما هو أجنبي، حتى ولو كان مخالفا للحقيقة، مجانبا للمنطق، دون تحر أو تدقيق، وبذكر يوسف بن تاشفين تذكرت الصورة التي نقشت في الذاكرة الإسبانية لأحد رجالات الأندلس وأبطالها الذين دوخوا الممالك الإسبانية وقهروها، وهو الحاجب المنصور ابن أبي عامر الذي لا يزال الكتاب الإسبان إلى اليوم يستوحون شخصيته ويوظفونها في كتاباتهم، ويعجبون من بطولاته وانتصاراته الباهرة في غزواته الست والخمسين التي لم يعرف الهزيمة في أي منها، وكان يجمع الغبار الذي يتناثر على ملابسه أثناء الحرب ويحتفظ به ليتخذه كفنا له بعد وفاته،وقد ألف أحد كتابهم عنه كتابا باللغة اللإسبانية بعنوان: المنصور: قيصر الأندلس (ALMANSUR CEZAR DEL ANDALUS) فكم منا يعرف هذه الشخصية وغيرها من الشخصيات التي استطاعت نقش اسمها في سجل التاريخ؟
والشيء بالشيء يذكر كما يقال، فقد كنت أتشوق لزيارة معالم مراكش وآثارها المختلفة، ولاسيما أضرحة الأعلام الكبار الذين سارت بذكرهم الركبان كما يقال، فكانت زيارتي أولا لسبعة رجال، ولكن ما عكر صفو هذه الزيارة ما وقفت عليه من حال ضريح واحد من أكبر رجال العلم في تاريخ المغرب بإجماع القدماء والمحدثين، في المغرب والخارج، إنه أبو العباس أحمد بن البناء العددي، فقد زرت منزله الذي لا يزال صامدا منذ العصر المريني، في قاع درب مغلق يحمل اسم العلامة أحمد بن ناصر بقاعة ابن ناهض، وصليت فيه العصر، ثم كانت زيارتي لقبره صادمة لمشاعري ومشاعر رفاقي، وبعضهم من أبناء مراكش، ولم أتمالك نفسي فذرفت دمعات حرى وأنا أصعد إلى البرج الذي كان يراقب منه الكواكب والنجوم بحي القصبة، ودفن فيه، فآثار قبره لا تكاد تظهر، ومكانه غير محدد، ويكاد ما يظن قبرا له يكون مستويا مع الأرض لانعدام شاهد يميزه، والأغنام ترعى في المكان وتتبول عليه، والبرج يكاد يتلاشى، والصعود إليه عسير لا يتم إلا بصعوبة، وحقه أن يكون مزارا تتزاحم عليه الوفود، والواجب يحتم ترميم هذا البرج ليحتفظ بدلالاته، وما أكثر النماذج التي تؤكد جهلنا بتاريخنا، وعدم إحاطتنا بمنجزات أسلافنا، وضعف معرفتنا بالأعلام الذين كان لهم دور في تاريخنا.
د.علي لغزيوي