الإسلاميون الـمعاصرون :
3-سيد قطب ومحمد قطب
سيد قطب وفكرة النسبية
رفض الأستاذ سيد قطب الفلسفة النسبية التي يستند إليها التطور المطلق، وقبل مذهبًا مؤداه أن هناك محورًا ثابتًا وحوله متغيرات.
يقول الأستاذ إن “سمة الحركة داخل إطار ثابت وحوله متغيرات هي طابع الصنعة الإلهية في الكون كله ـ فيما يبدو لنا ـ لا في التصور الإسلامي وحده”(30).
فالتغيرات داخل إطار ثابت نظام كوني شامل وليس نظامًا قاصرًا على ناحية دون أخرى، فالمجموعة الشمسية الضخمة، والذرة، وكل شيء آخر في الوجود “فيه متغيرات حول محور ثابت”.
وفيما يتعلق بالقيم الخلقية يؤكد الأستاذ قطب أن فيها ما يتغير، وفيها ما هو ثابت.. أي هي خاضعة للسنة الكونية الشاملة، سنة الحركة حول محور ثابت”(31). ولم يَـخـضْ في التفاصيل، ولم يعالج أمثلة محددة.
وأهمية وجود محور ثابت للقيم الخلقية تتمثل في ضبط الحركة البشرية والتطورات الحيوية، فلا تمضى شاردة على غير هدى، كما حدث في أوربا المعاصرة التي تفلتت من عروة العقيدة، فانتهت إلى تلك النهاية البائسة(32).
وأما التطور المطلق الشامل لكل الأوضاع والقيم، وللأصول التي تستند إليها القيم ذاتها، ففكرة تناقض الأصل الواضح في بناء الكون، وفى بناء الفطرة ومن ثم ينشأ عنها الفساد الذي لا عاصم منه”(33).
وأما التطور في مجالات العلوم غير الدينية فالإسلام لا يضع عليها قيدًا “إن هذا الدين لا يدخل نفسه أبدًا في الشئون العلمية البحتة ولا العلوم التطبيقية المحضة، باعتبارها من أمور الدنيا،(أنتم أعلم بشئون دنياكم].. وعندئذ يُخرج الإسلام نفسه نهائيًا من الميدان الذي حشرت الكنيسة نفسها فيه في القرون الوسطى، فحرقت العلماء وسجنتهم لأنهم يتحدثون في العلم وهى تحشر نفسها فيه”(34).
ويفسر الأستاذ سيد قطب تبنى بعض النظم الاستبدادية لدعوى التطور المطلق فيقول إن التطور المطلق “هو مجرد عملية تبرير لكل ما يراد عمله.. وهو أولاً وقبل كل شيء عملية تبرير لما تريده الدولة بالأفراد، بحيث لا يكون هناك مبدأ ثابت ولا قيمة ثابتة يلوذ بها الأفراد في مواجهة الدولة.. وفى نظير إطلاق يد الدولة تجاه الأفراد من كل قيد، تطلق الدولة شهوات الأفراد من كل قيد”(35).
والأستاذ سيد قطب يرد على الماركسية بالذات لأنها تمثل أقصى تطرف فلسفي معاصر في الموقف من تطور القيم الخلقية.. لقد جعلت الماركسية من القيم الخلقية مسألة مائعة، متبدلة، متغيرة، متطورة، مع تطور وسائل الإنتاج!
وهذا ما يرفضه سيد قطب مؤكدًا أن القيم ثابتة “في كل المجتمعات.. سواء كانت هذه المجتمعات في طور الزراعة أم في طور الصناعة، وسواء كانت مجتمعات بدوية تعيش على الرعي أو مجتمعات حضرية مستقرة”(36).. فالقيم في الشريعة الإسلامية تمثل المحور الثابتالدائم الذي لا يتغير ولا يتطور بحال.
ولقد أشرنا من قبل إلى أن الموقف الإسلامي يتيح مجالاً واسعا للتطور، بحيث لا يصبح هناك أدنى خطر للتحجر كما ظن بعضهم(37).
وفى هذا يقول الأستاذ قطب “ولا نحتاج إلى الحيطة ضد التجمد في قالب حديدي ونحن نستمسك بهذه الخاصية في التصور الإسلامي ـ خاصية الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت ـ فخطر التجمد لا يَرِد على مثل هذا التصور ولا على الحياة التي تتحرك في إطاره”(38).
فكرة التطور عند محمد قطب..
ويتخذ الأستاذ محمد قطب الموقف نفسه، وينكر على الماركسيين مزاعمهم القائلة بأن الأخلاق مجرد انعكاسات للحالة الاقتصادية، ويؤكد أن للأخلاق “مقياسًا ثابتًا.. وأن هناك أصلاً ثابتًا للأخلاق “وأن على الإنسانية أن تصل إليه من كل طريق يضمن الوصول”(39) .
ويرى الأستاذ محمد قطب أن أحْوال التطور في العالم المعاصر “ليست كلها نموًا سويًا ولا “تطورًا” كمايقول التطوريون، إنما هي مفتعلة افتعالاً حسب مخططات شريرة وُضِعت لإفساد البشرية ودُسَّـت فيها كثير من المفاسد، وقيل للناس إنها “تطور حتمي” وأن عليهم أن يأخذوها بلا معارضة ولا جدال، وهددوا إن هم وقفوا في سبيلها بأن عجلة التطور ستسحقهم”.
وهو يحدد موقف المسلم من هذا العالم “التطوري” فيقول “إن عليه أن يُفَرِّق بين المتطور أو المتغير بطريقة سوية، وبين المتغير بطريقة مفتعلة، أو بأسباب جاهلية لا علاقة لها بالإسلام ومرجعه في ذلك هو الكتاب والسُّنة”(40).
فالدعوة إلى التطور “السائب” المطلق مرفوضة.،. والدعوة إلى الثبات الشامل مرفوضة أيضًا. وهذا يذكرنا بما سبق أن اقتبسناه من أقوال ابن القيم من أن الإحجام عن الاستفادة من السياسة الشرعية أو المصالح المرسلة فيما لا نص فيه تقصير مضر، كما أن إعمال المصالح فيما فيه نص خطأ.
فحيث النصوص المحكمة لا تطور.. وحيث لا نص فثمة فرصة للجديد المستحدث (مع تفصيل وتكميل يعرفه الأصوليون).
وهكذا نتبين بجلاء أن الفكر الإسلامي المعاصر لم يقبل مطلقًا فكرة التطور المطلق الذي لا يعرف للنصوص الدينية حرمة، كما أنه أنكر الثبات المطلق الذي يأبى أن يتحرك في النطاق المشروع للحركة ويركن إلى الجمود والتحجر.
هذا هو الموقف الذي ارتضاه الفكر الإسلامي الذي يمثله الأصوليون الكبار مع بعض الفوارق اليسيرة بطبيعة الحال (وقد أشرنا إلى بعض هذه الفوارق في صدر هذا البحث).. فلا مجال بعد هذا للزعم بأننا معرضون لخطر الجمود.
ولا مجال بعد هذا للتميع، والتمسح في “سعة قيمنا المورثة”(41)، بقصد الإيحاء بمشروعية التطور، دون تحديد دقيق لمجال هذا التطور.
إن الإسلام يقر نوعًا من التطور، ويحدد مجاله، ويمنعه من تجاوز هذه الحدود.. وعلينا أن ندرك هذا جيدًا، وأن نعرف هذه الحدود بوضوح.. وإذا نحن تأملنا آراء الإسلاميين المعاصرين وجدناها تقررمبادئ عامة، ولا تخوض في التفاصيل.. أعني أنها لم تتساءل عن ظواهر التغير التي يتذرع بها التطوريون، مثل تغير الفتوى مثلاً، أو تغير آراء كبار الفقهاء، كما حدث للشافعي، أو ظواهر إرجاء قطع يد السارق في الغزو، أو تغير ظروف المجتمعات بما يبطل الحاجة إلى الضيافة التي أَوْجبَتْها السُّنة، أو أَمْر عثمان رضى الله عنه بالتقاط الإبل الضَّالًّة في حين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد نَهَى عن ذلك، هذا فضلاً عن التغيرات الهائلة في النظم الإدارية والحربية وأثر ذلك في شرائع القتال وأخلاقياته.
هذا هو طابع المعالجات الحديثة لقضية التطور في مؤلفات الإسلاميين المعاصرين الذين درسناهم.. أما العلماء من السلف الصالح فقد عالجوا الفروع وبعض التفاصيل والجزئيات في مؤلفاتهم الموسوعية، لكنهم لم يجمعوا ظواهر التغيير أو التباين أو التطور لتشكيل مذهب في الثابت والمتغير، لأن القضية لم تطرحعليهم بوصفها التحدي الفكري الذي يبتغى هدم أصول الإسلام وفروعه كما حدث عند طرح نظرية دارون في العالم الإسلامي المعاصر(42).
—————
(30) “خصائص التصور الإسلامي ومقوماته” صـ 121.
(31) نفسه صـ 120، 142 : 143.
(32) نفسه صـ 128.
(33) نفسه صـ 131.
(34) سيد قطب “الإسلام والرأسمالية” دار الشروق طـ 10 صـ 81.
(35) نفسه صـ 140.
(36) “معالم في الطريق” دار الشروق (لم يسجل مكان النشر ولا تاريخه) صـ 111.
(37) د. زكى نجيب محمود “ثقافتنا في مواجهة العصر” صـ 57.
(38) “خصائص التصور الإسلامي ومقوماته” صـ146،147
(39) محمد قطب “الإنسان بين المادية والإسلام” الحلبي بمصر طـ 4 سنة 1965 صـ 78.
(40) نفسه صـ 79.
(41) د. زكى نجيب محمود، السابق صـ 57.
(42) محمد قطب “دراسات قرآنية” صـ 505، 506.
مجلة المنار الجديد عدد 19 على موقع سلطان
د.أحمد عبد الرحمن