الإنفاق المرشد هو المنهض للأمة
إذا كنا نحن غير ملتزمين في مجال الانفاق بأحكام الشريعة الإسلامية، فنفس المرض -مرض الإسراف- الذي عند الغربيين هو عندنا، ولكن بأسباب وتجليات أخرى. إن كلا الحدَّيْن، الاسراف والتقتير، لا يجوز.
فمتى يبتدئ الإنفاق الذي دعينا إليه؟!.
إن الإنفاق : إنفاقَ الفضل، أي الزائد عن الحاجة -كما كان يقول أبو ذر- لا يكدس، ولكن مع ذلك لا يبذَّر، وإنما يَرُوج ويُسَيَّر ويُحرَّك من أجل أن يُنَشِّط الحركة الاقتصادية وهذا يحتاج إلى دراسة دقيقة من خبراء اقتصاديين مسلمين يعرفون حاجات الأمة، فيوجّهون المال جهة التنمية. والإنسان المسلم بحكم كونه مسلما وبحكم كونه أيضا منتميا إلى أمة. يجب أن يكون له، الإحساس بما هو كفاية، وبما هو زائد عن الكفاية لتأسيس صناديق التنمية والتكافل.
عمر بن الخطاب أول من وضع سلالم موظفي الدولة
عمر بن الخطاب ]، وهو المثال في هذه المسائل المادية غالبا، كان يحدد حاجة الإنسان في عصره، وقد حددها بما يقارب أربعمائة درهم، يحتاجها الإنسان لتقوم بها حاجته خلال السنة كلها، فكان يرى أن ذلك هو الكفاية، وإن كان عمر قد وضع في بداية الأمر شيئا من التفاوت بين نوعين من الناس، كان يعطي الذين شهدوا بدرا خمسمائة درهم، ويعطي الذي جاؤوا بعد بدر أربعمائة درهم، وكان يعطي أقواما آخرين ممن ولدوا فيما بعد، من المائة إلى المائتين.
فتقريبا كان أعلى ما يتقاضاه إنسان عند المسلمين هو خمسمائة درهم، وأقل ما يتقاضاه إنسان شاب مثلا ليس له مطالب كثيرة ـ هو مائة درهم أو مائتا درهم.
المهم أن الجميع كان يتقاضى حصته من ميزانية الدولة. وهذا يفيد أن سلاَلِمَ الرُّتْبة -أي الترتيب الإداري- كانت خمسة : أي السلم الخامس، والرابع، والثالث، والثاني، والأول.
السلم الخامس كان فيه عمر بن الخطاب وكبار الصحابة والسابقون من المجاهدين الأولين وما بعْدهم أقلّ منهم درجة، ولكن مع ذلك كان الفارق بسيطا، لأن الاسلام وإن كان يسمح بالتفاوت فيما يمكن أن يتَفَاوَت فيه الناسُ بسَبَب كَفَاءتِهِم، لتَحْفيز الهمم وتفجير الطاقات الابداعية الكامنة داخل كل فرد، فإنه لا يترك الأمر هملا حتى يصير الفرق فاحشا.
التفاوت بين السلالم ينبغي أن يكون معقولا متوازنا
ولكن مع ذلك لا يجوز أن يصير الحَدُّ إلى درجة أن يُحرم بعض الناس تماماً، بمعنى أنهم لا يملكون أي شيء في مقابل أن أناسا آخرين يبلغون درجات عالية في الثراء الفاحش ممن يتقاضون أجورهم من ميزانية الدولة فلا يجوز مثلا، أن تكون تعويضات البعض تصل مثلا إلى 200000 درهم شهريا وآخر لا يتجاوز دخله الشهري 1500 درهم أو أقل في بعض الأحيان. فهذا الأمرُ ليس جائزًا ولا من صميم الإسلام، لأن الفقهاء كانوا يقولون إنه إذا كانت لك دابتان، وأطعمتَ إحداهما تِبْنًا وأطعمتَ الأخْرى شعيرًا، فإن ذلك يحرم عليك، فإما أن تطعمهما معا تِبْنًا وإما أن تطعمهما شعيرًا، إذا رأت الدابة التي تأكل التِّبن الأُخْرى تأكل الشعير فإن ذلك يحَزُّ في نفسها، وتَشْتَهِي أن تأْكل الشعير فلا تَتَمَكَّنُ منه، وذلك يعذِّبُها، وهو أمرٌ لا يجوز لك، هذا بشَأْن الدواب، فما بالُك بالإنسان، الأمر بالتأكيد أخطر، فلا بد في الشركات والمؤسسات من مراعاة حد، يُسَمَّى حَـدّ الكفاية، والدولة أيضا لا بد أن تراعي حدا إسمُه حُد الكفاية فيما هي في حاجة إليه.
النبي كان يقسِّم أموال الدولة حسب الحاجة
والنبي كان قد اصطفى من المال الذي مكَّنه الله منه ثلاثة من الأنواع، كان له دخل خيبر، ودخل فَدَك، ودخل بني قريظة، أي جهات ثلاث، وكان يرصد كُـلَّ واحد لحاجة من حاجات المسلمين، وقد كان رصْدُ دَخل بني النظير لنوائبه كما قيل، ورصْدُ دخل فدك لأبْنَاءٍ السبيل، ودَخَلُ خيْبَر لعموم المسلمين ولأُسْرته وما بقي اشْتَرى به السِِّّلاَحَ والكُراعَ للْحَرْب، بمعنى أن النبي كان قد رتب مالية الدولة.
فهذا دخل الجهة الأولى وهذا دخل الجهة الثانية وهذا لتجهيز الدولة الإسلامية، لتغطية مصاريف ما يطرأُ، ولِتَجْهيز الدولة الإسلامية نفسها. والدخل الثاني دخل فَدَك من أرض اليهود كان قد خصه النبي لأبناء السبيل، بمعنى للوظائف الاجتماعية، للتكافل الاجتماعي أي لإعطاء المساعدة للعاجزين وللفقراء، ولإعطاء التعويضات للعمال وما إلى ذلك من تسيير المستشفيات وضمان التغطية الصحية بالنسبة لعصرنا، والثالث وهو دخل خيبر، وهو كان قد خصصه النبي للمسلمين عموما، وكان قد خصص جزءا منه لأهله وأسرته، أي لرئاسة الدولة، وخصص أيضا جزءا منه لشراء السلاح، والبهائم والدواب والمراكب التي يحتاج إليها في الحرب، هكذا كان التوزيع، أي التوزيع الموصل إلى الكفاية.
أما ما فوق هذا الأمر فكان الرسول يتصدق به على المسلمين ولا يتركه ولا يَحْبِسُه، بمعنى أن الدولة بنفسها يجب عليها أن تنفق الفائض من المال، وكل ما زاد عن حاجتها، ولا يكون الشأن فيها أن تستجمع المال، وأن تستكثره، وأن تفرض الضرائب الكثيرة، من أجل أن يكون الصندوق ممتلئاً، لأن الدولة بنفسها يجب أن تحدِّد حاجاتها، ما هي في حاجة إليه، وما هي ليست في حاجة إليه، فلا يمكنها أن تستكثر من المال ولا يمكنها أن تجمع، لأن الدولة بنفسها يمكن أن تصير حَابِسَةً للمال، مانعة للإنفاق، أي للدولة حاجاتٌ وميزانيةٌ معينة، وما زاد عن ذلك فيجب أن ينفق في جميع الأنشطة التي يمكن أن ترفِّه عن الناس، وأن تنشِّطهم، وأن تُـدخل التنعُّمَ عليهم.
إن الكفاية محددة في أربعمائة درهم عند المسلمين في عهد النبي وعهد الصحابة رضوان الله عليهم فيما بعد، والكفاية عند الدولة محددة في هذه الوظائف التي حددها رسول الله ، إذن فما زاد بعد ذلك هو الذي يطالب فيه المسلمون بالإنفاق، بمعنى ألا يُجَمَِّّدوه، بل ينبغي أن يروجوه، وأن يجعلوه مشاريع تُدِرُّ عَلَيْهم أرباحاً، المهم أ ن يُديروا به الحركة الاقتصادية حتى لا يُجَمَّد.
الدعوة الإسلامية من الوظائف التي ينبغي أن يخصص لها جزء من الإنفاق
من أحسن الوجوه التي يوظف فيها هذا الفائض المالي ويسخر فيها، أي بعد الكفاية، سواء على مستوى الدولة أو الأفراد، أن يُصْرَف جُزْءٌ من المال من أجل خدمة الفكرة الإسلامية، من أجل إبلاغ الإسلام للآخر، أي كما بيَّنْتُ أن الآخَرين يُسَرِّبون إلينا، ويمررُّون إلينا حضارتهم وأفكارَهم وتصورَاتِهِم عبر الإنفاق الذي ينفقون ونَسْتهلك نحن، فأيضا فائضُنَا يجب أن يُسَخَّر في التعريف بالإسلام وفي إزالة هذه الصورة القاتمة التي تكونت عند الغربيين عن الإسلام، نحن مدعوون أن نبيِّن لهم أن الإسلام ليس كما يتصورون، أن الإسلام دينٌ، وأنه حضارةٌ، وأنه ثقافة، وأنه علمٌ، وأنه أُخُوَّة وأنه محَبَّة، وأنه فيه أشياء أخرى غير تلك الصورة التي رسمتها للإسلام هذه الصليبيَّة الجديدة.
د.مصطفى بنحمزة