الـمنطلقات والـمرتكزات
اهتم المسلمون على امتداد أربعة عشر قرنا بالقرآن وبتفسيره، على أنه كتاب عقائد وعبادات وتشريعات وأخلاق، وهداية وإرشاد، مما يحتاج إليه الإنسان في دينه ودنياه ليعيش حياة طيبة تهيئ له الفوز في الآخرة.
وهذا المنحى في التعامل مع كتاب الله، جعلهم يعتبرون معجزة القرآن تتمثل في إعجازه البلاغي البياني، والتنبئي بأحداث ثبت وقوعها فيما بعد، دون النفاذ إلى إعجاز باهر آخر ظل غائبا عن عقول كثير من المفسرين والعلماء والباحثين في علوم القرآن، إنه الإعجاز العلمي المعرفي الذي سيبهر العقول ويحير الألباب ويقوي الإيمان ويجعل الباحثين من المسلمين يكتشفون، بعد طول أمد، أن القرآن يحتوي على عدد من الحقائق العلمية الأساسية والمعارف الكونية مما يجعله مصدرا للمعارف الشاملة في مختلف الميادين العلمية والكونية فضلا عن الشرعية، وهذا لا ينفي أن هناك ثلة من المفسرين العلماء ذوي المنحى العقلاني العلمي من كان يزاوج في تفسيره وتعامله مع القرآن على أنه كتاب هداية وإرشاد، ومعارف وعلوم أيضا، وأن إعجازه علمي كما هو بلاغي بياني وتنبئي، ولكنهم كانوا قلة لا يشابههم في ذلك إلا النزر القليل من الفقهاء والعلماء لما كان عليه التوجه العام السائد والغالب.
لقد كان لاهتمام المفسرين ورجال الثقافة الشرعية بآيات التشريع والأحكام- على قلتها في القرآن- دون ايلاء عناية لآيات السنن الكونية والحضارية والحقائق العلمية، وفرض هذا التوجه على المجتمع الإسلامي باسم الدين، آثار ضارة على الفكر العلمي والثقافة المعرفية بمعناها الكوني، مما انتكس معه العقل العلمي عند المسلمين وتأخر عن البروز وضمرت معه العلوم، وذبلت بسببه النظريات والحقائق المعرفية التي تظهر الإعجاز العلمي والظواهر الطبيعية، فقلت الكتب العلمية المؤلفة في هذا الميدان-لفائدة الكتب الدينية التشريعية- وأصاب أنصارها غبن عاش معه علماء الكون المسلميـن على قلتهم- على هامش المجتمع الإسلامي- حتى يمكن القول بأن الخطاب الديني بمفهومه العقدي والعبادي والتشريعي حد من ظهور خطاب علمي كوني قرآني، بل إن هذا التوجه أصبح على مر العصور سلطة دينية تراثية عاقت ظهور خطاب علمي كوني قرآني، وحدت من إعمال العقل في هذه الآيات الكونية العلمية الإعجازية، وامتدت معها عصور الانحطاط والتخلف العلمي لقرون عديدة، مما جعل العرب المسلمين يتخلفون علميا وفكريا في مختلف شعب المعرفة الكونية لفائدة النقل والرواية وعلوم الشرع.
وقد تحدثت في كتابي الأخير: “حديث القرآن عن الإنسان” عن بعض الأسباب الدينية والاجتماعية والسياسية التي كانت وراء هذه الظاهرة.
ويرجع الباحثون المحدثون أسباب هذه الرؤية العلمية والمعرفية الجديدة للقرآن وأنه كتاب إعجاز علمي بالإضافة إلى أنه كتاب هداية وإرشاد، إلى الصدام الحضاري الذي حدث للمسلمين بسبب الاستعمار الغربي لديار المسلمين، وما أمكن لبعض العلماء والمفكرين المسلمين مشاهدته في بعض بلدان أوروبا الغربية من تقدم علمي هائل ومظاهر حضارية راقية وثقافة علمية تعم سائر ميادين الحياة عند الأوروبيين وتطبع سلوكهم وعيشهم وكافة مناحي حياتهم بسبب ما حققوه من تقدم علمي وتفوق معرفي وأنجزوه من منشآت وبناءات، وابتكروه من آليات وتكنولوجيا متطورة، مما جعل المفكرين المسلمين يتحققون بأن سبيل الخروج مما أصابهم من ضعف وجمود وتأخر، في مختلف المجالات الاقتصادية والفكرية والاجتماعية والسياسية هو اقتناء المعرفة الحديثة واقتباس العلوم العصرية من الغرب.
ولقي هذا التوجه المعرفي العلمي نحو القرآن وضرورة التسلح بالعلوم الحديثة ، استجابة من بعض القيادات السياسية والفكرية في الوطن العربي الذين أدركوا عبر مشاهداتهم واحتكاكهمبالغرب الأوروبي، ضرورة الأخذ بهذه العلوم لإحداث التغيير المنشود والتقدم المطلوب.
وهذا التوجه الذي ساد بين كبار الباحثين والعلماء المسلمين المستنيرين دفعهم إلى البحث في القرآن- وكذا السنة- لاستكشاف جملة من الحقائق والإشارات العلمية والنظريات المعرفية مما اعتبر إعجازا علميا واستلهاما جديدا غير مسبوق، بدأت معه الكتب والمؤلفات التي تبرز بعض الحقائق العلمية، والنظريات المعرفية الكونية تظهر، مما أصبح يعرف بالتفسير العلمي للقرآن كنظرية خلق الكون والانفجار الكبير ومراحل تكوين الأجنة…إلى غير ذلك من الحقائق العلمية التي لم يتم اكتشافها من لدن العلماء الأوروبيين إلا في العصر الحديث .
ولعل كتاب “الجواهر في تفسير القرآن الكريم” 1940 م لمؤلفه الطنطاوي جوهري يمثل التوجه الجديد في التفسير العلمي للقرآن وإظهار إعجازه وسبقه في هذا المجال، حيث أنحى باللائمة على العلماء المسلمين الذين ركزوا في تعاملهم مع القرآن على آيات الشرع والأحكام وتجاهلوا آيات العلوم حاثا على وجوب إعطاء العناية الفائقة للآيات التي تبرز العلوم الطبيعية والكونية في القرآن بنفس الاهتمام الذي أولاه القدماء لآيات الأحكام والميراث والأحوال الشخصية… مما يندرج في العلوم الشرعية. ذلك أن العصر الذي نعيشه هو عصر العلوم وسبيل التغلب على ما يعوق أمتنا من تخلف وضعف وانحطاط هو إيلاء العلوم الكونية أيضا مكانتها في حياتنا . ومثل هذا التوجه في الدعـــوة إلى التفسيــر العلمـــي فـــي القـــرآن عرفـــه العلماء المسلمـــون في آسيــا، وخاصة السيد أحمد خان في جنوب آسيا الذي أبرز في العديد من الآيات القرآنية الإعجاز العلمي بما تضمنته من حقائق ونظريات.
إن هذا التحول في التعامل مع القرآن واستكشاف إعجازه العلمي سيصحح كثيرا من المواقف والاتجاهات التي كانت تتخيل- بسبب انحسار الدينفي الغرب وافتقاد الإيمان لمرجعيته المعصومة- أن هناك تصادما بين الإسلام والعلم، وستساعد هذه النقلة النوعية الجديدة في دراسة الآيات التي تضمنت حقائق علمية وإشارات كونية إلى أن القرآن هو نفسه يحث على العلم بمفهومه الكوني/ العصري الحديث، وأنه يدعو إلى إعمال النظر في سنن الكون وظواهر الطبيعة والتأمل فيها- لا لامتلاك العلوم واقتناص المعرفة والتسلح بها لمواكبة الركب الإنساني في هذا المجال والتغلب على ما يعتري الأمة من ضعف وتخلف وتبعية واحتلال- ولا أنه استجابة لنداء العقل وغريزة التعلم الكامنة في أعماقنا- ولكن لتسخير كل ذلك أيضا من أجل تعميق الإيمان بالله والوقوف على بدائع خلقه وعظيم صنعه، مما يجعل كل ذلك قربات وأعمالا دينية لها ثوابها وأجرها تندرج في فروض العين الواجبة على كل قادر على اقتناء المعرفة من مصدرها القرآني.
ويكفي في بيان أهمية هذه العلوم الكونية أن الله تعالى بين أثرها للإنسان لتعميق الإيمان المفضي إلى الخشية وذلك حين ذكر تعالى الماء وما أخرج من الثمرات والجبال والناس والدواب والأنعام، ما يستدعي التأمل في هذا الكون العجيب، ويدركه علماء الطبيعة بخاصة الذين يعرفون الله بآثار صنعته ويستشعرون عظمته برؤية إبداعه، ومن ثم يعبدونه حقا ويخشونه حقا {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك، إنما يخشى الله من عباده العلماء}(فاطر :27).
وهذا يعني من جانب آخر بناء الإيمان الراسخ على الجانب المعرفي: العلم المستفاد من العلوم الطبيعية والرياضية إذ العلم يُتِمُّ الإيمان ويسبقه كما يقول تعالى : {وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيومنوا به فتخبت لـه قلوبهم}(الحج : 54). فالإيمان لا ينافي العلم ولاالعقل بل الدين عندنا نحن المسلمين علم : {ولو اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير}(البقرة :119).
عبد الحي عمور