زارني مؤخرا باحث إسباني اشتعل رأسه شيبا، يسأل عن أمور دقيقة ومحددة، تتعلق بمرحلة من تاريخ المغرب إبان خروج المسلمين من الأندلس، وقد جاءني متحمسا متفائلا، ظانا أنه سيجد في المغرب الأجوبة الشافية عن تساؤلاته، والمعلومات المفصلة التي ترضي فضوله، وكان يبدو عليه كثيرمن التفاؤل والاطمئنان، غير أن ظنه قد خاب أو كاد، ولاسيما بعد أن اتصل مباشرة ثم بالهاتف بمجموعة من الباحثين الذين جاء بأسمائهم من بلاده، وبعد أن زودته بأسماء أخرى وبهواتفهم، لم يجد عند هؤلاء ولا عند أولئك ما ظنه سهلا ميسرا، اعتقادا منه أن معرفة ما جاء يبحث عنه في المغرب ستكون الإحاطة به لدى الباحثين والمؤرخين المغاربة من باب تحصيل الحاصل، قد يعرفه حتى عامة الناس فضلا عن خاصتهم.
ولم يكن ما يسأل عنه هذا الباحث الإسباني الشغوف بالمراحل المتأخرة لتاريخ المسلمين في الأندلس سوى معلوماتظنها عادية عند أبناء فاس خاصة، وتتعلق بآخر ملوك الأندلس المخلوع الذي غادر الفردوس المفقود بأهله وماله، فنزل بمدينة مليلة أولا قبل أن ينتقل إلى مدينة فاس التي استقر بها وبنى بها بعض القصور على النمط المعماري الأندلسي، وقد ظلت قائمة إلى عهد المقري الذي رآها ودخلها، وتوفي هذا السلطان بمدينة فاس ودفن بإزاء المصلى خارج باب الشريعة، وقد خلف ولدين اثنين، أحدهما اسمه يوسف، وثانيهما اسمه أحمد، وذلك يدل على أنه لم يخرج خاوي الوفاض كما سيحدث لمواطنيه الآخرين الذين التحقوا به فيما بعد، بل جاء بأمواله الوافرة التي استغل قسطا منها في مجال العمران، وإن كان دوام الحال من المحال كما يقال.
وكانت أسئلة هذا الباحث الذي كان نشيطا وحيويا محددة ودقيقة: أين هي القصور التي بناها هذا السلطان؟ ما هو موقعها اليوم؟ وأين قبره؟ وأين يقع باب الشريعة الذي دفن خارجه؟ وهل له عقب من ابنيه يوسفأو أحمد أو من غيرهما إن كان قد تزوج بفاس وأنجب؟ مؤكدا أن المصادر الإسبانية تشير إلى أن زوجته الأندلسية قد توفيت بالأندلس قبل انتقاله إلى المغرب.
وكان الباحث يحمل معه كتابا بالإسبانية عن مملكة غرناطة، يتضمن نصوصا للمقري مترجمة إلى اللغة الإسبانية قال إن مصدرها المخطوط موجود بالمعهد الملكي بمدريد حسب مصادره، وأنه لم يقف عليه بعد، ويتحدث المقري في تلك النصوص عن حياة السلطان الأندلسي الأخير المخلوع وعقبه بفاس إلى عصره، وقد أخبرته بأن هذا المصدر الذي ترجم منه هذا النص هو كتاب نفح الطيب للمقري، وقد وردت هذه النصوص أيضا في كتابه: أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض، وقد أطلعته على النص بالعربية التي لا يعرفها، ولكننا لم نجد فيه إضافة تلبي مبتغاه، وكنت ألاحظ أن حيويته ونشاطه وحماسه وجديته في البحث والتنقيب تكاد تفتر، وهو لا يصدق أنه قد يعود خائبا دون أن يظفر بالمادةالتاريخية التي يرغب في الحصول عليها لدعم بحثه في مكان ظن أنها مما ينبغي أن يعرفه أبناء فاس، كبارا وصغارا عن ظهر قلب، ولا سيما والأمر يتعلق، كما يقول بواحد من أبرز ملوك الأندلس، وقد كان شغل الرأي العام الإسباني والأوروبي في عصره، ودوخهم ودفعهم إلى بذل أقصى ما يملكون من جهود للبحث عن أساليب الخداع والدهاء من أجل إجباره على تسليم آخر معاقل الأندلس الإسلامية، والخروج منها سالما، يحمل ما شاء من مال ومتاع، ويصطحب من أراد من أسرته وأقربائه دون عائق أو حاجز، يجتر آلام الحسرة، ويجر عار الخلع والاستسلام، والعجز عن الحفاظ على ملكه، ويرى هذا الباحث أن ما تتداوله الرواية العربية عن موقف السيدة عائشة أم السلطان الأندلسي المخلوع من أنها خاطبته بقولها: ابك يا ولدي مثل النساء ملكا لم تحافظ عليه مثل الرجال، أو كما قالت، مجرد أسطورة من وجهة النظر الإسبانية.
ولما يئس أو كاد منالعثور على مبتغاه عند المؤرخين والمهتمين استعان بالمرشدين السياحيين فلم يزيدوه إلا ابتعادا عن مطلوبه المحدد، وإن لم يبخلوا عليه ببعض المعلومات العامة.
أما باب الشريعة فقد أحلته على كتاب جنى زهرة الآس في بناء مدينة فاس، وفيه ما يؤكد أن باب الشريعة هو المعروف بباب المحروق الذي يعتقد بعضهم أنه سمي بذلك لإحراق جثة ابن الخطيب هناك، والحقيقة أن هذه التسمية تعود إلى العصر الموحدي كما يؤكد ذلك الجزنائي بقوله وهو يتحدث عن أبواب فاس :
“وباب الشريعة، وهي باب يدخلها الفارس بالعلم العالي، والرامح بالرمح الطويل، من غير أن يميل العلم ولا ينثني الرمح لارتفاعها، وسميت باب المحروق من أجل أن العبيدي القائم بجبال ورغة لما ظفر به وقتل علق رأسه على باب الشريعة المذكور، وأحرق جسده في وسطها، وذلك يوم ركبت مصارعها بأمر الأمير محمد الناصر بن المنصور سنة ستمائة”.(جنى زهرة الآس:45). وبطبيعة الحال فإن عملية الإحراق ستتكرر مع لسان الدين ابن الخطيب فيما بعد على عهد بني مرين. واما باب الشريعة فقد سميت كذلك لأنها الباب التي يخرج منها الناس إلى المصلى في العيدين، أو تقام بها الحدود الشرعية.
وأما قبر السلطان الأندلسي المخلوع فلا يكاد يعرفه الآن أحد، مع أن المؤرخين القدماء حددوا مكانه في هذه الجهة، وأغلب الظن أنه تنوسي مع الزمن فلم يهتم أحد بوضع شاهد عليه يميزه، ولما تم فتح طريق حديث خارج باب المحروق، (باب الشريعة)، في عهد الحماية تم جمع رفات عدد من القبور، وقد يكون هذا القبر واحدا منها، وقد تم توسيع الطريق وإصلاحه في عهد الاستقلال أيضا، ولا شك أن بعض القبور المتقادمة قد شملتها عملية الإصلاح والتوسع، ولعل ذلك ما أدى إلى تناسي هذه الشخصية وعدم معرفة مكان دفنها بالتحديد، والمهم أن الباحث الإسباني قد التقط صورا لباب المحروق وما حوله ليعزز بها بحثه، وليذكر المكان الذي حددته المصادر التاريخية ضريحا للسلطان المذكور ولو بالتقريب.
وأما القصور التي ذكرت المصادر أنه بناها على نمط البناء الأندلسي فيبدو أنها قد اندثرت أيضا، وقد ذكر أحد الباحثين الذين تم الاتصال بهم للاستفسار عنها ألا أحد يعرفها، وأن العصر كان عصر الرواجف والروادف.
وأما عقب هذا السلطان فيصور أبو العباس المقري مأساتهم تصويرا مأساويا مؤثرا، فيذكر كيف أصبحوا بعد العز والصولة من المتسولين الشحاذين، بعد أن أصابهم الفقر بمخالبه، ولا بأس من أن نسوق نص المقري وشهادته للتأمل والاعتبار وأخذ الدروس من هذه التجربة المتفردة في تاريخ البشرية، يقول أبو العباس المقري:
“وانتهى السلطان المذكور بعد نزوله بمليلة إلى مدينة فاس بأهله وأولاده، معتذرا عما أسلفه، متلهفا عما خلفه، وبنى بمدينة فاس بعض قصور على طريقة بنيان الأندلس، رأيتها ودخلتها. وتوفي رحمه الله تعالى عام أربعين وتسعمائة، ودفن بإزاء المصلى خارج باب الشريعة، وخلف ولدين اسم أحدهما يوسف، والآخر أحمد، وعقب هذا السلطان بفاس إلى الآن، وعهدي بذريته بفاس سنة 1027للهجرة، يأخذون من أوقاف الفقراء والمساكين، ويعدون من جملة الشحاذين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم”( نفح الطيب:4/529 تحقيق د. إحسان عباس).
غير أن عقبه لم يستمر طويلا فيما يبدو، فقد عقب محمد بن الطيب القادري المولود سنة 1124للهجرة، والمتوفى سنة 1187للهجرة على كلام المقري بقوله: ” قلت: وقد أدركنا قوما بفاس يقال لهم أولاد ابن يوسف، ويذكر أنهم أولاد يوسف المذكور، والآن انقرضوا ولم يبق أحد منهم. ( نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني: 1/ 146).
د.علي لغزيوي