الإسلاميون الـمعاصرون :
2-رشيد رضا
لا يقل رشيد رضا عن محمد عبده احترامًا لنصوص الشريعة، إن لم يَـفـُقـْهُ في ذلك.. والتطور الذي أجازه رشيد رضا هو التطور الذي لا يعارض نصوص الشريعة أو روحها ومقاصدها.
يقول عن نفسه ورسالته “وصاحب المنبر قد وقف نفسه على الرد على جميع الملاحدة والبهائية والقاديانية والقبوريين وسائر مبتدعة عصرنا، وهو لم يدّع مذهبًا له يدعو إليه ولم يخالف إجماع الأمة”(22).
ويقول عن المصالح المرسلة وحدودها :
“وكان صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في المصالح العامة، سياسية وحربية ومالية، مما لا نص فيه في كتاب الله تعالى”.. وبيّن في تفسيره لآية الشورى “حكمة ترك الشورى لاجتهاد الأمة، لأنها مصلحة تختلف باختلاف الأحوال والأزمنة، ولو قيدت بنظام لَجعِلَ تعبديًا”(23).
وهو في موضوع المصالح على مذهب الإمام مالك رحمهالله(24)، وكلنا يعلم شدة تمسك المالكية بنصوص الكتاب والسنة الصحيحة.
لكن محمودًا الشرقاوى ـ وهو من أنصار التطور ـ يصور رشيد رضا في صورة أخرى مغايرة ويقتبس من كتاباته ما يؤيد مذهبهم، لكنه ـ للأسف ـ لم يحدد موضع الاقتباس لكي نراجع النصوص(25).
وهذا مسلك عجيب حقًا، فالأصول المتعارف عليها تقتضي تحديد مواضع الاقتباس، وبخاصة حين يكون الرأي ـ موضع النظر ـ له خطورته، وله مخالفوه أيضًا.
ويذكر د. الأعظمى أن رشيد رضا “قسم الأحاديث النبوية قسمين : المتواتر وغير المتواتر، وكان رشيد رضا يرى أن ما نقل إلينا بالتواتر ـ كعدد ركعات الصلاة، والصوم وما شاكل ذلك ـ فهذا يجب قبوله، ويسميه الدين العام؛ وأما ما نقل إلينا بغير هذه الصفة فهو دين خاص لسنا ملزمين بالأخذ به”، وهو يرجح أن الصحابة “لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث (كلها) دينًا عامًا دائمًا كالقرآن”(26).
ثم نقل الأعظمي عن مصطفىالسباعي أنه ـ أي رشيد رضا ـ رجع فيما يبدو عن موقفه هذا في آخر عمره(27).
وحقيقة ما قاله رشيد رضا هو حسب لفظه ذاته “وأقول.. معنى هذا أن بعض أحاديث الآحاد تكون حجة على من ثبتت عنده واطمأن قلبه بها، ولذلك لم يكن الصحابة رضى الله عنهم يكتبون جميع ما سمعوا من الأحاديث ويدعون إليها مع دعوتهم إلى اتباع القرآن والعمل به وبالسنة العملية المتبعة المبينة له، إلاّ قليلاً من بيان السنة، كصحيفة على كرم الله وجهه المشتملة على بعض الأحكام، كالدية وفكاك الأسير وتحريم المدينة كمكة.. ولم يرض الإمام مالك من الخليفتين المنصور والرشيد أن يحملا الناس على العمل بكتبه، حتى الموطأ، وإنما يجب العمل بأحاديث الآحاد على من وثق بها رواية ودلالة.. وعلى من وثق برواية أحد وفهمه لشيء منهما أن يأخذه عنه، ولكن لا يجعل ذلك تشريعًا عامًا؛ وأما ذوق العارفين فلا يدخل شيء منه في الدين، ولا يعد حجة شرعية بالإجماع، إلاّ ما كان من استفتاء القلب في الشبهات، والاحتياط في تعارض البينات”. (28)
وقال أيضًا “إن الأحكام الاجتهادية التي لم تثبت بالنص القطعي الصريح رواية ودلالة لا تجعل تشريعًا عامًا إلزاميا، بل تفوض إلى اجتهاد الأفراد في العبادات الشخصية والتحريم الديني الخاص بهم، وإلى اجتهاد أولى الأمر من الحكام وأهل الحل والعقد في الأمور السياسية والقضائية والإدارية، ومأخذه آية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمْرِ والْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ ومَنَافِعُ لِلنَّاسِ وإثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}(البقرة : 219) ووجهه : أن هذه الآية تدل على تحريم الخمر والميسر بضرب من الاجتهاد في الاستدلال، وهو أن ما كان إثمه وضرره أكبر من نفعه فهو محرم يجب اجتنابه، وذلك ما فهمه بعض الصحابة فامتنعوا من الخمر والميسر.. ولكن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يلزم الأمة هذا، بل أقر من تركهما ومن لم يتركهما، على اجتهادهما إلى أن نزل النص القطعي الصريح في تحريمهما والأمر باجتنابهما في سورة المائدة فحينئذ بطل الاجتهاد فيهما، وأهرق كل واحد من الصحابة ما كان عنده من الخمر وصار النبي يعاقب من شربها”(29).
——-
(22) رشيد رضا “الوحي المحمدي” المكتب الإسلامي طـ 8 صـ 254، 255.
(23) الوحي المحمدي” صـ 272، 273.
(24) نفسه صـ 278.
(25) هذا ما فعله محمود الشرقاوي،كتابه السابق صـ227.
(26) د. الأعظمي صـ 27 “نقلاً عن مجلة المنار، المجلد العاشر، صـ 511″.
(27) د. الأعظمى صـ 27 “نقلاً عن “السنة ومكانتها” للسباعي صـ 42.
(28) تفسير المنار جـ 1 صـ 138.
(29) نفسه صـ 118.
د.أحمد عبد الرحمن