الإسلاميون الـمعاصرون :
1- الشيخ محمد عبده
لقد تصدى الفكر الإسلامي المعاصر لدعاوى التطور في مجال القيم الخلقية، والمبادئ التشريعية، كما تصدى للدارونية الشرقية التي اُتخـذت سندًا لهدم الدين من أساسه الاعتقادى ذاته.
وكانت العناية بمناقشة “دارون” في مجال علم الحياة (البيولوجيا) هي التي استحوذت على كتابات “جمال الدين الأفغاني”، والشيخ “محمد رضا آل” العلامة وغيرهما.
أما التطور في مجال التشريع والقيم الخلقية والمبادئ التشريعية فلم ينل إلاّ القليل من اهتمام الباحثين، فجاءت آراؤهم على شكل تعميمات أو نظريات، ولم تتطرق بحوثهم إلى الجزئيات؛ وكذلك يُلاحظ أن الكتاب الإسلاميين المعاصرين لم يفيدوا كما ينبغي من علم أصول الفقه، وهو الذي تناول هذه القضية بمنهج صارم دقيق، وعرض موقف الإسلام منها بأسلوب منطقي رصين.. ومن هنا وجدنا كثيرًا من الكتابات الحديثة والمعاصرة قاصرًا عن أن يُقَارَن بما في تراثنا الأصولي الشامخ، وقد كان عليها أن تستوعبه، ثم تحاول أن تضيف إليه.
إن الكتابات الإسلامية المعاصرة التي عَرَضَت لقضية تطور الشرائع والقيم الخلقية لم تتناولها إلاّ عرضًا : فصل هنا، وفصل هناك، أو فقرة هنا، وفقرة هناك، دون تكرس أو تفصيل، على الرغم من أن إسقاط هذه الدعوى الخطرة يعني إسقاط كل المذاهب المناهضة للإسلام.
الشيخ محمد عبده :
ونبدأ عرض موقف الفكر الإسلامي المعاصر بآراء الشيخ محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، عليهما رحمة الله.
ونلحظ بادئ ذي بدء أن الشيخ محمد عبده كان يرى أن إصلاح أحوال الأمة “يتم إذا سلك قادتها سبيل التربية والتثقيف، لا سبيل تقليد الغرب من غير فهم ولا إدراك عميق، أو التمسك بظواهر المدنية المادية مع الغفلة عن صميم المدنية الروحية”(8).
فهو يدرك فساد الاتجاه الأعمى إلى تقليد الغرب.
بل إنه يبدو متشددًا في موقفه من تقليد المدنية الغربية حين نراه لا يجيز لبس البرنيطة إلاّ على شروط فيقول في فتواه ردًا على استفسار من أهالي “الترنسفال” : أما لبس البرنيطة.. إذا لم يقصد فاعله الخروج من الإسلام والدخول في دين غيره، فلا يُعد مكفرًا، وإذا كان اللبس لحاجة من حجب الشمس، أو دفع مضرة، أو دفع مكروه، أو تيسير مصلحة، لم يكره كذلك”(9).
فهو يقف في مجابهة التطور بالمعنى العلماني الحديث ـ أي تقليد المدنية الغربية ـ وذلك لإدراكه بأن الزي سمة من السمات الثقافية، يجب الحفاظ عليها، وإن كانت من الأمور “الخارجية”.
لقد دعا الشيخ محمد عبده إلى :
- “تحرير الفكر من قيد التقليد”.
-”وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف”.
- “والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعه الأولى”.
- “واعتباره من ضمن موازين العقل البشرى التي وضعها الله لتردَّ من شططه، وتقلل من خلطه وخبطه،، لتتم حكمة الله في حفظ نظام العالم الإنساني.. وإنه على هذا الوجه يُعد صديقًا للعلم باعثًا على البحث في أسرار الكون، داعيًا إلى احترام الحقائق الثابتة..”(10).
ومن الواضح أن هذا الذي دعا إليه “الشيخ” لا سند فيه لأنصار التطور؛ بل فيه السند لتوكيد ثوابت الإسلام، في ينابيعه الأولى : أي الكتاب والسُّـنة؛ وواضح من كلامه أن اليد العليا للكتاب والسُّـنة عند ظهور خلاف بينهما وبين الخبرة البشرية، سواء كانت معقولات أو علومًا بشرية.. وهو يرى تحرير الإسلام والفكر الإسلامي من آراء القدماء، وتحريره من التقيد بالاجتهادات الموروثة والتقليدية.
وإذا كان تلاميذه من أنصار نظرية التطور قد خالفوا مبادئه، فذلك شأنهم، وهو ليس مسئولاً عن أخطائهم.. لقد أرادوا الاستتار وراء اسمه؛ وعلينا أن نزيح ذلك الستار جانبًا، ونبرِّئ الشيخ من ذنوب التطوريين الذين راحوا يتمسحون في عباءته!(11).
وأمااحترامه للنصوص الدينية، وتوكيده ضرورة الوقوف عند حدودها وعدم الخروج عليها لأى سبب كان، فأمر واضح أشد الوضوح : “فأمر الله في كتابه، وسنة رسوله الثابتة القطعية التي جرى عليها صلى الله عليه وسلم بالعمل، هما الأصل الذي لا يُرد.. وما لا يوجد فيه نص عنهما يَنظر فيه أولوا الأمر، إذا كان من المصالح”(12).
ومعنى كلامه أن السُّـنة الصحيحة لا تنسخ بإجماع، ولا مصلحة مرسلة، لأننا نعلم جميعًا أن فتح هذا الباب الخطير لابد أن ينتهي إلى تقويض التشريع والأخلاق جميعًا.
وإذا كان الإسلام قد دعا إلى نبذ التقليد، فإنه لم يقصد بذلك الخروج على شرع الله باسم التطور أو التقدم أو المصلحة، أو غير ذلك من دعاوى الحريات العقلية أو العلمية.
لقد أطلق الإسلام العقل من قيوده “وخلصه من كل تقليد كان استعبده، ورده إلى مملكته يقضى فيها بحكمه وحكمته، مع الخضوع مع ذلك لله وحده، والوقوف عند شريعته، ولا حد للعمل (العقلي) في منطقة حدودها (أي داخل إطار الشريعة)، ولا نهاية للنظر يمتد تحت بنودها”(13).
فليعمل العقل، وليفكر الإنسان، ولينظر الناظرون، ولكن ضمن حدود الشريعة، وتحت بنودها.
وإذا توهم الواهمون أن الامتثال لأوامر الله يضيّع مصلحة أو يسبب ضررًا فإن ذلك لا يجيز لأحد ردّها “لأن الأوامر الإلهية يجب الإذعان لهــا بدون بحث ولا مناقشة”(14).
ورفض محمد عبده نسخ السُّـنة بالقياس “فعلينا أن لا نحفل بكل ما قيل (عن إمكان نسخ السُّـنة بالقياس في رأى بعض الشافعية)، وأن نعتصم بكتاب الله قبل كل شيء، ثم بسـنّة رسوله التي جرى عليها أصحابه والسلف الصالحون”(15).
وكذلك رفض “التأويل السقيم والتحريف البعيد” كوسيلة ملتوية للخروج على النصوص من أجل إقرار مذاهب باطلة أو تشريعات وقيم خاطئة “كما هي عادة المقلدين في جعل مذاهبهم أصلاً والقرآن العزيز فرعًا يُحمل عليها ولو بالتأويل السقيم والتحريف البعيد”(16).
فالتأويل عنده يجب أن لا يراعي “إلاّ الدليل القطعي، أو الأحاديث الصحيحة، لا الظنون الشخصية والميول الحزبية”(17).
وبعد أن أنشأت الحكومة المصرية ما يسمى بصندوق توفير البريد، ووجدت أن الأهالي يتأثمون من أرباحه باعتبارها فوائد ربوية، سألت محمد عبده “هل توجد طريقة شرعية لجعل هذا الربح حلالاً حتى لا يتأثم الفقراء من المسلمين من الانتفاع به؟” فأجابها مشافهة “بإمكان ذلك بمراعاة أحكام شركة المضاربة في استغلال النقود المودعة في الصندوق”(18).
وهذا هو الموقف الإسلامي الصحيح.
————-
(8) رشيد رضا “تاريخ الأستاذ الإمام” جـ 1 صـ 137.
(9) الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده جـ 3 صـ 115.
(10) مذكرات الإمام محمد عبده، تقديم طاهر الطناحى، نشر دار الهلال، بدون تاريخ صـ 18.
(11) انظر ما يقوله “جيب” عن انتشار المفهوم التطوري لسير التاريخ بين تلاميذه “دعوى تجديد الإسلام” صـ143.
(12) الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده جـ5 صـ238، 239. // (13) نفسه جـ 5 صـ 444.
(14) نفسه جـ2 صـ 107.
(15) نفسه جـ 4 صـ 403.
(16) نفسه جـ 5 صـ 224.
(17) د. عثمان أمين “رائد الفكر” صـ 175.
(18) الأعمال الكاملة جـ 1 صـ 679.
د.أحمد عبد الرحمن