عبَقُ الفردوسِ في الوادي الكبيرْ **** وعبيرُ العُرْب في المجد الأسيرْ
جدَّدا لي ذكرياتٍ لم يزل ****ْ جرحُها يسكن في قلبي الكسير
ذكّرتني أمةً شرقيّةً **** هبطتْ في الغرب بالخير الكثير
نَوّروا بالعلم أرضاً لم تكن **** لترى – لولاهمو- ومضةَ نور
وبنَوْا أمجادهم من شُهُبٍ **** مشرقاتٍ فازدهتْ عبر العصور
من تُراهم عبروا بوغازَها **** فغدا بالفتحِ فخراً للبحور ؟
من تراهُ جاء صقرا كاسراً **** خضدتْ شوكتُه كلَّ الصقور ؟
يا مغاني المجدِ في أندلسٍ **** ولياليها كهالات البدور
هزّني الشوقُ لدنياكِ التي **** سَبَحتْ في مركباتٍ من عطور
لأرى التاريخَ في أطلالها **** يسكبُ العِبْرَةَ من خلف السطور
وأرى فيها قصوراً أصبحتْ **** بعد إدبار اللّيالي كالقُبُور
فَهْي كالخرساء، في أعينها **** دمعة ُالحزنِ ومأساةُ المصير!
أين من عيني نعيمٌ وافرٌ **** وارفُ الظلّ نقيٌ كالغدير ؟
وعشايا الأُنسِ في (غَرناطةٍ **** بين أشجارٍ وأوتارٍ وحُور )
وصبايا حالماتٌ نشرتْ **** فوق بُسط الزّهرِ أمواجَ الشُّعور !
وشذا الأزهارِ في أجوائها **** عنبرٌ يسبحُ فيها وبَخور
فتنٌ يفقُد فيها قلبَه ****ُ جامحُ القلبِ ويخشاها الوقور
أوحشتْ مذ أفَلَتْ أقمارُها **** وخلتْ من أُنسها تلك القصور!
لم يعدْ يُسمعُ فيها وترٌ **** أو يغرّدْ بلبلٌ فوق الزهور
حوّم البومُ على أبراجها **** وطواها الموتُ من غير نُشور
وروى التاريخُ عنها قصّةً **** سكنتْ مأساتُها كلَّ الصدور!
فكأنْ لم تغنَ بالأمس ولم **** يكُ فيها لبني العُرْب حُضور!
إن جَلَوْا عنها وغابوا فلهم **** في مغانيهم شُخوصٌ وظُهور
كلُّ شيءٍ يتراءى لكَ في **** فنّها الزاهي إشاراتِ مرور!
ولساناً عربيّاً ناطقاً **** ودماً يوشك فيها أن يثور!
كم شدا فيها (ابنُ زيدونََ) على **** فَنَنِ الحبّ فناغَتْهُ الطيور
منحتْه حبَّها (ولادةٌ **** صافيَ المنهل عذباً لا يغور )
خلّدتها في الهوى أشعارُهُ **** مَثَلاً يبقى على مرّ الدّهور
وشدا (زريابُ) في أبهائها **** ما تغنّتْ به ربّاتُ الخُدور!
كم أتاها (يوسفٌ) في جنده ****ِ يعبر البحرَ إليها والجُسور!
ذبّ عنها كلَّ طاغٍ وحمى **** بيضةَ الإسلام كالليث الهصور
لم يكن يكبح عن أعدائها **** خيلَه حتى تُواريها الجُحور!
شدّتِ القلبَ إلى (حمرائها **** وخريرُ الماء للأُسْدِ زئير!)
وشممتُ الزهرَ من (زهرائها **** فارتشفتُ الراحَ من ثغرِ العبير)
محفلٌ للحسنِ إلا أنهُ **** مأتمٌ في القلبِ موصول السّعير
ها هُنا كان رجالٌ ودَّعوا **** تاركينَ المجدَ والعزَّ الوفير
أسكرتهم نشوةُ العزّ فما **** فارقُوا النشوةَ إلا بالنفير
من يمتْ حزناً على فقدانها **** لم يُمتهُ غيرُ وعيٍ في الضمير
أين في الفردوسِ مُلكٌ باذخٌ **** كان للإسلام والعُرَب النّصير ؟
خفقتْ راياتُه عاليةً **** وارتوى من صابه كلُّ مُغير
كلُّ شيءٍ راحَ إلا دِمَناً **** وقصوراً كدُمى الطفلِ الغرير
تُلهم الشِّعرَ وتدعو للبُكا **** بدم القلب، وبالصوت الجهير!
كلُّ شيءٍ غاب! لا جندٌ ولا **** موكبٌ يزهو، ولا عرشُ أمير
تُلهم الشِّعرَ وتدعو للبُكا **** بدم القلب، وبالصوت الجهير
كلُّ شيءٍ غاب! لا جندٌ ولا **** موكبٌ يزهو، ولا عرشُ أمير
من رأتْ عيناه يومَ ارتحلوا **** وهُمو بين طريدٍ وأسير
ودَّ لو قد كان أعمًى لا يرى **** دولةَ الإسلام في النَّزْع الأخير
خلعوا ألبسةَ العزّ التي **** ألِفوها ونسوا المهدَ الوثير
وإذا مَن كان في الأمس بهِ **** يستجيرُ الناسُ يسعى للمُجير
هكذا خُلْقُ اللَّيالي، صفوُها **** غيرُ مأمونٍ، ودولابٌ يدور
ليس يبقى حُزْنُ محزونٍ بها **** أبدَ الدهرِ، ولا يبقى سرور
فسقى اللهُ رُباً ضمّخها **** دمُ قومي، وسقى تلك الصّخور
كم رجالٍ ضرّجوا أرجاءها **** بدماهم، وحمَوْا فيها الثغور!
وتحدَّوْا عُصَبَ الشّركِ بها **** في الوغى منقضّةً مثلَ النسور
ما على قوميَ بأسٌ إن كبا **** بهمُ الدهرُ فللدهر عُثور!
يا ربوعَ المجدِ في أندلسٍ **** إنّ عمرَ المجدِ في الدنيا قصير
كلما هبّتْ نُسيماتُ صَبا **** كدتُ من شوقي لدنياكِ أطير
شعر المرحوم محمد الحلوي