الدعوة إلى الله تعالى ليست بالأمر الهين الذي يمكن لأيّ كان أنْ يخوض غمارها، ويجرب حظه فيها، لأن الانسان المخاطب بهذه الدعوة كائن صعب، يصعب على الفهم، ويتعذر على الادراك، فقد حار فيه الدارسون والباحثون، وأعجز الفلاسفة والحكماء والأخلاقيين، وأعيى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فهو يحب الحق ويُغْرَمُ به إلاّ أنه ينوء بحمله، وقد يمضي إلى حد كراهيته ومحاربته، ورفض الالتزام به، وحمل مسؤوليته، والقرآن الكريم يشير إلى ذلك قائلا : {لقد جئناكم بالحق ولكنّ أكثركم للحق كارهون}(الزخرف : 78).
فالحق المطلق الذي هو من وراء حق نسبي يعرفه الناس ويختصمون من حوله على هذه الأرض، هو فوق هذا العالم المحسوس، ينزل منه بقدر معلوم على الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم.
وجوهر الحق واحد لا يتغير، إلاّ أنه من أجل الانسان الضعيف نفسه يلبس أثواباً شتّى، ويتلونبألوان مختلفة، وهذا هو سبب اختلاف دعوات الرسل والأنبياء، واختلاف معجزاتهم وشرائعهم وأساليب دعوتهم الى الله تعالى.
فعموم النّاس لا يطيقون مكاشفتهم بالحقائق مباشرة ووجهاً لوجه، فما لم يكن جهازهم النفسي قد بلغ درجة عالية من السمو والصفاء والرهافة مع القوة والثبات، فإنّ من غير الحكمة مواجهتهم به، وقدح زناد نوره في جنبات أنفسهم، ومن هنا نستطيع أن نفهم الحكمة في أنّ الكثير من الحقائق -ولاسيما المستقبلية منها- قُدِّمَت الى الناس في القرآن والحديث وسطاً بين الغموض والافصاح، وتُرِكَ لعقولهم مهمة فك أغلفتها وفهم رموزها، والوقوف على حقيقتها من خلال الأجيال والعصور، وقد أشار إلى هذا أستاذنا النورسي في معرض بيانه لحكمة المتشابه من آي القرآن والحديث.
ولما كان رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه هو خاتم الأنبياء والرسل، فلا نبي ولا رسول بعده، كان ما حُمِّل من “الحق” أثقل، مما حُمِّل منه نبيّ أو رسول، من قبله {إنّا سنُلْقي عليك قولاً ثقِيلاً}(المزمل : 5) وحين اصطفاه لرسالته تعالى لم يفاجئه بها فُجَاءَةً، ولم يلقها إليه دون أن يمهد لها في نفسه تمهيداً.
ورغم أنّ قلبه هو أثبت قلوب البشر وأقواها وأطهرها وأفسحها وأظمأها إلى “الحق” إلاّ أنه لم يكن يطيق أن يغمره الحقّ القرآنيّ ويلقي بثقله كله عليه مرةً واحدةً، فلم يتنزل جملةً واحدةً، ولا دفعة واحدةً.
{وقُرآنا ً فرقْناه لتقرأَه على النّاس على مُكْثٍ وأنزلناه تنزيلاً}(الاسراء : 106). فسبق نزول الحق إرهاصات وطوالع وهواتف جعلته يحسّ صلوات الله وسلامه عليه أنّ حدثاً ما سيحدث له، وأنّ أمراً خطيراً يوشك أن ينزل به، وأنّ شيئاً ما يهزُّ نفسه وكأنه يريد لها أن تستعد لقبول ما سيأتيها به الغيب الذي يحسُّه ويشعر به إلاّ أنه لا يعرف ما يريد.
تقول عائشة رضي الله عنها : >إنّ أوّل ما بُدئً به رسول الله من النبوة حين أراد كرامته ورحمة العباد به، الرؤيا الصادقة<(تهذيب سيرة ابن هشام ص 45).
وعن عبد الملك بن عبيد الله : >… فلا يمرّ رسول الله بحجر ولا شجر إلاّ قال : السلام عليك يا رسول الله…<(تهذيب سيرة ابن هشام ص 46).
وعن عبيد بن عمر عن الرسول : >… فخرجتُ حتّى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول : يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل، فرفعتُ رأسي إلى السماء أنظر، فإذا جبريل في صورة رجل صافٍّ قد ميه في أفق السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، فوقفتُ أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأَيْتُه كذلك…<(تهذيب سيرة ابن هشام ص 47).
فلما استنارت نفسه الشريفة ببوارق الوحي، وأنِسَت بلوامع بعض نوره، تهيأ لاستقبال الوحي، واستعدّ لنزول الحق، فارتقت بذلك ذاته الطاهرة حتى صارتْ الأفق الرفيع الذي تلتقي عنده أشواق الأرض بأشواق السماء، والبحر العظيم الذي يصبّ فيه ينابيع عالمي الغيب والشهادة، والطريق المنير الذي لا بد من المرور من خلاله لمن يريد النجاة والخلاص في الدنيا والآخرة.
د.أديب الدباغ