التحريف في العقيدة و التشريع
إن الإخلال و عدم الوفاء بالمواثيق أدى باليهود إلى أمور و تبعات خطيرة، يمكن إيجازها في تحريف قضيتين مهمتين : العقيدة و التشريع .
1- التحريف في شق العقيدة :
إن الله تعالى أدان أفعالهم الشنيعة التي طالت العقيدة .فلقد كانت التوراة نورا و هدى لهم يحكمون بما أودع الله لهم فيها من أحكام ،يسيرون على هديها و يسترشدون بتعاليمها. قال الله تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها نور و هدى يحكم بها النبيئون الذين أسلموا للذين هادوا و الربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله و كانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس و اخشون و لا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}المائدة.44.
لكنهم حرفوا التوراة و طمسوا تعاليم موسى عليه السلام، و شمل هذا التحريف كل جوانب العقيدة إلا الأقل القليل.ثم كان الاستعلاء الموجب للعن من الله و من قبل الأنبياء و الناس أجمعين.
قال الحق سبحانه منكرا عليهم الكفر بآيات الله و تبديل الحق بالباطل: {يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله و أنتم تشهدون يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل و تكتمون الحق و أنتم تعلمون} (آل عمران.70-71).
و كان من نتيجة هذا الاستعلاء و الاستكبار -كما هو معهود فيهم إلى اليوم – عن أوامر الله أن زعموا البنوة لله فقالوا عزير بن الله.قال سبحانه : {و قالت اليهود عزير ابن الله و قالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهون به قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يوفكون}(التوبة :30).و الدعاء عليهم هنا يعني اللعن و الهلاك.
و قد اختلفت الروايات في قضية عزير لماذا قال اليهود إنه ابن لله؟ و لكنهم ربطوا هذا بحفظه التوراة و تعليمها بني إسرائيل، لأنها كانت قد فقدت من قبل، بسبب الفتن و الحروب،فأعادها وأحياها لهم .
و نذكر باختصار قول سيد قطب في كتابه ( في ظلال القرآن)الذي نقله عن رشيد رضى في تفسير المنار (25): ذكرت دائرة المعارف اليهودية أن عصر عزرا هو ربيع التاريخ الملي لليهودية التي تفتحت فيه أزهاره،و عبق شذا ورده .و أنه جدير بأن يكون هو ناشر الشريعة لو لم يكن جاء بها موسى،فقد كانت نسيت،و لكن عزرا أعادها و أحياها و لولا خطايا بني إسرائيل لاستطاعوا رؤية الآيات كما رأوها في عهد موسى.( 26 )
و المشهور عند المؤرخين و أهل الكتاب أن التوراة التي كتبت و وضعت في تابوت العهد، قد فقدت قبل عهد سليمان عليه السلام،و لما فتح التابوت في عهده لم يوجد فيه غير اللوحين اللذين كتبت فيهما الوصايا العشر، كما تراه في سفر الملوك الأولى.و لقد أشار القرآن الكريم إلى التابوت: {و قال لهم نبيهم إن آية ملكه أن ياتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم و بقية مما ترك آل موسىو آل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مومنين}(البقرة :248).
و يقول أهل الكتاب إن عزرا كتبها كما كانت بوحي من الله.
و بسبب هذا الإحياء للتوراة قدس اليهود عزيرا و زعموا أنه ابن لله- تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا-.
و ادعاء البنوة لله إخلال بأعظم خصائص الشرائع السماوية ،ذلك أن أكبر خصائصها التوحيد و عدم الإشراك بالله.أ لم يقل كل نبي ورسول لقومه : {مالكم من إله غيره}(هود.61-64). فإسقاط هذه الخصيصة من الشريعة بتحريفها أو بإضافة ما يشوهها، يزيل عنها صفة السماوية والربانية. بل إن كل استقراء لدعوات الرسل والأنبياء عليهم الصلاة و السلام،كان مداره الدعوة إلى التوحيد،و لأن جميع المواثيق في كل الديانات السماوية تفرعت بالأصل عن هذه الخصيصة.
و التاريخ يشهد أن الإخلال بهذا الميثاق كان بداية شؤم لليهود ،ذلك أن تتالي التحريفات الواقعة في عقيدتهم ما هو إلانتيجة لإسقاط ذلك من الشريعة.
و قد تمادوا في غيهم و استكبارهم فادعوا أنهم صفوة مميزون عن البشر ،و زعموا أنهم أبناء الله و أحباؤه : {و قالت اليهود و النصارى نحن أبناء الله و أحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق} (المائدة.18). حيث فضح الله سرائرهم و لم يزكهم،بل حشرهم في زمرة الكفرة الباغين الذين لعنهم ،و جعل النار مثوى لهم، وكشف كذبهم، فإن الحبيب لا يعذب حبيبه.
بل إن النصارى أمعنوا مثلهم في الضلال ، وزعموا أن الله يتجلى في صور ثلاث nو ما يسمى عندهم بالأقانيم- و قالوا : {إن الله ثالث ثلاثة} فرد الله عليهم : {و ما من إله إلا إله واحد}(المائدة.73).
و لم يقفوا عند هذا الحد من التيه،بل إن ظلمهم طال حتى الملائكة المقربين. فقد أورد ابن كثير في تفسيره أن بعض اليهود قالوا لمحمد : (إنه ليس من الأنبياء إلا يأتيه ملك من الملائكة من عند ربه بالرسالة و بالوحي،فمن صاحبك حتى نتابعك ؟ قال :جبريل قالوا : ذاك الذي ينزل بالحرب وبالقتال،ذاك عدونا !لو قلت : ميكائيل الذي ينزل بالقطر و بالرحمة تابعناك.فأنزل الله :{قل من كان عدوا لجبريل فإنه أنزله على قلبك} ( 27).
ثم إن التطاول امتد إلى حرمة الرسل و الأنبياء عليهم الصلاة و السلام ،حيث إنهم خالفوا ما أمروهم به ،فأحلوا ما أثبتوا لهم تحريمه،و حرموا ما أحلوه لهم .روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال : بلغ عمرَ أن سمرة بن جندب باع خمرا،فقال : قاتل الله سمرة.أ لم يعلم أن رسول الله قال : لعن الله يهودا،حرمت عليهم الشحوم فجملوها و باعوها.(28).
و عن أبي هريرة أن رسول الله قال : قاتل الله يهودا ،حرمت عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا ثمنها.
و عن ابن عباس قال : رأيت رسول الله جالسا عند الركن،فقال : فرفع بصره إلى السماء فضحك، فقال : لعن الله اليهود ثلاثا،إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا أثمانها ، و إن الله تعالى إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه(29 ).
و من فساد عقيدتهم أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يصلون عندها ،و تابعهم النصارى في ذلك.فقد ذكر البخاري في كتاب الأنبياء: أن عائشة و ابن عباس قالا : لما نًزِلَ برسول الله طفق يطرح خميصة على وجهه ،فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال و هو كذلك : لعنة الله على اليهود والنصارى ،اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد،ُيحَذر ما صنعوا( 30 ).
لأن التعظيم و الإطراء قد يؤديان إلى الافتتان المؤدي إلى الكفر، مثلما حدث لكثير من الأمم في دهورها السابقة.
و من فساد عقيدتهم تطاولهم على الرسل والأنبياء و الصالحين من أممهم بإيذائهم و قتلهم. والأنبياء و الرسل معصومون من كل ما يوجب الاعتداء عليهم بالإيذاء أو القتل.
و لكن نفوسهم المستكبرة العاتية ،جعلتهم أول الأمر لا يمتثلون إلى الشرع الذي أتت به الرسل، ثم عدم الاستجابة للوعيد، و بالتالي التمرد خضوعا للأهواء و المصالح . ثم قتل الأنبياء ظلما وعدوانا، فضرب الله عليهم الذلة و المسكنة و لحقهم غضب الله أين ما وجدوا و متى وجدوا، و الدارس الفطن يستقرئ هذا من التاريخ .قال سبحانه : {وضربت عليهم الذلة و المسكنة و باءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بئايت الله و يقتلون النبيئين بغير الحق ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون}(البقرة :61).
و قال كذلك : {و لقد ءاتينا موسى الكتب وقفينا من بعده بالرسل و ءاتينا عيسى ابن مريم البينت و أيدنه بروح القدس ا فكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم و فريقا تقتلون}(البقرة :87).
و قد توعدهم الحق سبحانه بالعذاب الشديد، ورد افتراءهم انهم مؤمنون ،و لن يجدوا من دونه ناصرا لا في الدنيا و لا في الآخرة .قال سبحانه : {إن الذين يكفرون بآيات الله و يقتلون النبيئين بغير حق و يقتلون الذين يامرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم أولئك الذين حبطت أعملهم في الدنيا و الآخرة و ما لهم من ناصرين}(آل عمران : 21- 22).
و قد شهد نبي الله موسى عليه السلام تعنتهم و تمردهم و مكرهم. فقد خالفوه في الدخول إلى الأرض المقدسة و التوجه إلى بيت المقدس،حيث إنه أمرهم بذلك بأمر من الله سبحانه،لأن يعقوب أباهم عليه السلام كان ثم من قبل أن يهاجر إلى مصر حين سكنها يوسف عليه السلام. و لكنهم خرجوا من مصر قاصدين الأرض المقدسة لكنهم هابوا العمالقة الذين سكنوها ،فأمرهم موسى بقتالهم لكنهم جبنوا و خالفوه.فحكم الله عليهم بتحريم الدخول إلى الأرض المقدسةو بالتيه مدة أربعين سنة ،توفي خلالها هارون ثم بعده موسى عليهما السلام.ثم خلفهم يوشع بن نون و بعد فترة التيه دخل بهم بيت المقدس فاتحا ،بعد العصر يوم الجمعة.
و لقد أمرهم يوشع بدخول بيت المقدس و أن يقولوا حطة لكنهم خالفوا أمره.وقد سجل الله عليهم كل ذلك .قال سبحانه : {ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم و لا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خسرين قالوا يموسى إن فيها قوما جبارين و إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا دخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غلبون و على الله فتوكلوا إن كنتم مومنين قالوا يموسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت و ربك فقاتلا إنا ههنا قعدون قال رب إني لا أملك إلا نفسي و أخي فافرق بيننا و بين القوم الفسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفسقين} (المائدة : 21- 26).
و قد خالفوا أمر موسى عليه السلام بعدما وعدوه بالصبر على طاعة الله و الامتثال لأوامره.قال تعالى : {فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال ياقوم أ لم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا و لكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفنها فكذلك ألقى السامري}(طه. : 86- 87).
كما خالفوه في ذبح البقرة التي أمرهم الله بذبحها ،و ضرب القتيل بجزء منها ليحيا و يبين قاتله.لكن نفوسهم الرعناء أبت إلا أن تخالف أمر الله، و أن يسخروا من موسى النبي عليه السلام،بل إنهم رموه بالاستهزاء بهم قائلين له : {أ تتخذنا هزؤا} فرد عليهم : {أ عوذ بالله أن أكون من الجاهلين} لأنه ليس من صفة الأنبياء و الرسل وهم يبلغون أوامر الله أن يتخذوا أقوامهم هزؤا وسخرية ،فذاك عمل المفسدين!.و بعد مشقة بالغة وجدوا البقرة التي كانت في سنها بين البكر والمسنة، و صفراء خالصا لونها ،و سليمة من العيوب و غير مذللة للعمل،لا تحرث و لا تسقي الزرع. و قد ذكر الله الحادثة في كتابه العزيز وسميت السورة باسم البقرة للاعتبار .قال سبحانه: {و إذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أ تتخذنا هزؤا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين قالوا ادعوا لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض و لا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تومرون قالوا ادعوا لنا ربك يبين ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين قالوا ادعوا لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا و إنا إن شاء الله لمهتدين قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض و لا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيهل قالوا الئن جئت بالحق فذبحوها و ما كادوا يفعلون و إذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها و الله مخرج ما كنتم تكتمون فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى و يريكم ءايته لعلكم تعقلون ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة و إن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهر و إن منها لما يشقق فيخرج منه الماء و إن منه لمايهبط من خشية الله و ما الله بغافل عما تعملون} (البقرة: 67- 74)
كما افتروا على مريم عليها السلام افتراء عظيما ،و اتهموها بالزنى بيوسف النجار، و كان هذا من الصالحين. قال سبحانه : {و بكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما}(النساء :156).
و الافتراء على المؤمنين و المؤمنات بالقذف والإيذاء المتعلق بالدين أو العرض،من المعاصي الكبيرة التي تحبط الأعمال، و توجب اللعن من الله عز و جل .و أي خزي و خسران أعظم من هذا؟ !.
———–
25- تفسير المنار . رشيد رضى.10/378-385.
26- دائرة المعارف اليهودية .طبعة 1903.
27- كما ذكره القرطبي في تفسيره 2/36 .
28- صحيح البخاري .كتاب البيوع.باب لا يذاب شحم الميتة و لا يباع و تركه ( 4/483-484 ) الفتح.
صحيح مسلم .كتاب المساقاة.باب تحريم بيع الخمر و الميتة ( 3/1207-1208 )
29- أبو داود .كتاب البيوع.باب في ثمن الخمر و الميتة ( 9/374-375 )
30- صحيح البخاري. كتاب الانبياء.باب ما ذكر عن بني إسرائيل 6/570.الفتح
صحيح مسلم.كتاب المساجد.باب النهي عن اتخاذ المساجد على القبور ( 1/377)..
ذ.عبد القادر بنعبد الله