غزت أمريكا العراق تحت ادعاءات متعددة لم يصدقها فيها إلا إدارتها المتطرفة التي خططت لهذا الإجرام منذ سنوات عديدة، وكانت تنتظر فقط الوقت الملائم والفرصة السانحة التي توفرت شروطها في مارس 2003 لتدشن أول احتلال لبلد ذي سيادة في القرن 21.
كان الأمر في بداية الغزو سهلا نسبيا حيث وصلت الدبابات الأمريكية العاصمة بغداد خلال ثلاثة أسابيع، وتبعثر بل تبخر الجيش القومي الاشتراكي البعثي الصدامي كأسد من ورق، وسقطت عاصمة الرشيد في مشهد مؤلم ومحزن ومؤثر لا يقدر على رؤيته كل من في قلبه ذرة من إيمان أو إسلام.
كان هذا النصر إنجازا كبيرا وهاما بالنسبة للصليبية المتطرفة والصهيونية العالمية لم تكن تتوقعه أو تحلم به، فأعلنوا جميعهم أن العراق استسلم وانهزم تماما، وأنه أصبح بلدا آمنا مطمئنا، وأن الأمر استتب للقوات الأمريكية بشكل كامل ونهائي حتى إن وزير الحرب الأمريكي صرح آنذاك أن بغداد أصبحت أكثر أمنا من واشنطن أو نيويورك، إلا أن بوادر المقاومة العراقية بدأت تظهر بسرعة مذهلة خلال الأسابيع الأولى للاحتلال في عمليات مختلفة ضد الجيش الأمريكي وفي مناطق متعددة من العراق، قيل في وقتها إنها عمليات محدودة مؤقتة سيقضى عليها بسرعة، وأنها مرتبطة بصدام حسين الذي يديرها من مخبإ، لكن العمليات لم تنته بل زادت، كماتحسنت وتطورت نوعا بعد القبض على صدام حسين ووضعه في السجن.
تميز الفلوجة : مدينة المساجد
وتميزت من بين مدن العراق، مدينة الفلوجة التي لم تستطع آلة الحرب الأمريكية دخولها وفرض سيطرتها عليها، تميزت مدينة المساجد بشبابها الملتزم الواعي، الرافض للاحتلال، بعلمائها المجاهدين على منابر المساجد بالكلمة الطيبة والخطاب المعبئ، بنسائها المحجبات العفيفات، العاملات في الظروف الصعبة والقاسية لتربية الأجيال الصاعدة، ومشاركة الرجال في كل أعباء الحياة، حيث بقيت هذه المدينة المجاهدة مكانا محرما على جنود الاحتلال وآلياتهم ومدرعاتهم، وكان كل اقتراب منها يكبدهم خسائر فادحة ويلقنهم درسا في القتال ويولون مدبرين فارين مرعوبين كالجرذان المذعورة.
لم يكن هذا مقبولا لدى أكبر وأحدث وأقوى جيش في العالم على الإطلاق، فتقرر حشد عشرات الآلاف من الجنود ومئات الدبابات والمدافع والطائرات وكل أنواع الأسلحة حتى المحظورة والمحرمة دوليا في محيط الفلوجة عسى أن يُرعب هذا المشهد الهائل الضخم أو يخوف أهل وسكان المدينة فيرفعوا الرايات البيضاء كما رفعها العالم لأمريكا، ويستسلموا كما استسلم العالم لأمريكا، فكان جواب أهل الفلوجة بعدما قيل لهم من الصديق والعدو والقريب والبعيد : إن أمريكا قد جمعت لكم فاخشوها، فكان جوابهم جميعا بدون تردد وهم مطمئنون بل واثقون : “حسبنا الله ونعم الوكيل”.
معركة الفلوجة الأولى
وبدأت معركة الفلوجة الأولى في أبريل 2004 بقصف جوي أمريكي مدمر استمر أسابيع متتالية أعقبه زحف المشاة وآلاف المارينز على المدينة، فهب شباب الفلوجة ملبين نداء المساجد، ونداء الشرف ونداء العروبة والاسلام، نيابة عن أمة نامت واستسلمت وتخاذلت، هبوا بأسلحتهم المتواضعة وأجسادهم وأرواحهم المتعلقة بالشهادة والاستشهاد للدفاع عن مدينتهم عن شرفهم وشرف أمة خذلتهم وتخلت عنهم، فدارت معارك طاحنة أبلى فيها الشباب البلاء الحسن واسترجعوا ذكريات وأمجاد القادسية، وحطين وعين جالوت والزلاقة، وانتهت المعركة بعد أيام من القتال بهزيمة الأمريكان شر هزيمة لم يذوقوا مثلها في تاريخهم الحديث وتكبدوا خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، اعترفوا بقليل منها فقبلوا صاغرين مرغمين شروط أهل الفلوجة بالتراجع عن المدينة وعدم دخولها وتمكينهم من إدارة مدينتهم بأنفسهم.
لقد كان هذا النصر صفعة للكبرياء الأمريكي وحلفاءه ، صفعة للتواطئ العربي الرسمي، صفعة للجهات العراقية المتعاونة مع الاحتلال، وكان أيضا زادا وقوة معنوية كبرى للمقاومين الرافضين للاحتلال تساعدهم على الاستمرار والمضي قدما على طريق التحرير، وللإشارة، كان هناك موقف مشرف لكتيبة عراقية من الجيش العراقي الجديد، أتي بها لتشارك في قتال أهل الفلوجة فامتنعت ورفضت ورجعت إلى ثكناتها رغم التهديدات الأمريكية والتلويح بالعقوبات.
التعتيم الإعلامي على الهزيمة الأمريكية
ومر هذا النصر العظيم الذي انعدم مثله في الزمن الحديث وقل نظيره في معارك المسلمين المظفرة الخالدة، مر تحت صمت رهيب، فلم تصل أصداؤه وأبعاده إلى الشعوب العربية والاسلامية بسبب التعتيم الإعلامي الرسمي على إبراز الفلوجة وجنود الفلوجة المظفرين وهزيمة الامبراطورية الأمريكية، وذلك خوفا من ردات الفعل في الشارع العربي الاسلامي والتي قد تسبب متاعب للأنظمة الموالية للولايات المتحدة الأمريكية.
غير أن صقور الإدارة الأمريكية ومَنْ وراءهم ومن معهم لم يكونوا ليقبلوا نهائيا بالهزيمة النكراء التي حلت بهم على يد أبطال العراق ويتركوا معركة الفلوجة تسطر بمداد من ذهب في كتب التاريخ لكي تُدَرَّسَ على مدى الأجيال، فَتَرْكُ أمر عظيم كهذا يمر، يمكن أن يقلب موازين وحسابات قد تضر بالهيمنة الأمريكية وسيطرتها على العالم في المدى المتوسط أو البعيد وما تأثير هزيمة الروس في أفغانستان على اندثار الإمبراطورية السوفيتية عنا ببعيد، لذا كان لزاما على أكبر جيش في العالم أن يفكر في الانتقام ومحو العار الذي لحق به، فبدأ الاعداد لمعركة الفلوجة الثانية، ولتجنب هزيمة نكراء ثانية تجهز عليه نهائيا، كان لا بد من دراسة المعركة المقبلة من جميع النواحي ولتفادي الأخطاء العسكرية والاستراتيجية والبشرية والسياسية.
الاستعداد للانتقام
قرر العسكريون السياسيونعدة أمور منها :
1- إيجاد غطاء سياسي عراقي للعملية، فتقرر إحداث ما سمي بالحكومة العراقية المؤقتة وادعاء نقل السيادة إليها وسرعان ما تبين في الشهور اللاحقة أن هذه الحكومة أكثر ترويجا لسياسة الأمريكية من الأمريكان أنفسهم، ولا غرابة في ذلك حين ننظر لتركيبة أفراد هذه الحكومة الذين اختيروا بعناية للقيام بالأدوار الموزعة عليهم، ومن بين الإجراءات التي أعلنوا عن عزمهم القيام بها والإسراع في تنفيذها : “تطهير مدينة الفلوجة من الإرهابيين وإعادتها إلى السيادة العراقية” وكان الأجدر الحديث عن عزمهم تدنيس الفلوجة وإدخالها إلى بيت الطاعة الأمريكي.
2- ضرورة إقحام مقاتلين عراقيين في العملية لمعرفتهم جعرافية المنطقة ولغة أهل البلد، وكذلك للظهور أمام العالم بأن العراقيين أنفسهم يحاربون الإرهاب، فتم تكوين ما يسمى بالحرس الوطني العراقي وتدريبه على يد الضباط الأمريكان ورجال المخابرات المركزية الأمريكية ليقوم بمهمته في الوقت المناسب.
3- ضرورة تهيئة الرأي العام الدولي وخصوصا العربي والإسلامي لقبول المجزرة التي يُعَد لها دون ردة فعل عنيفة ورافضة، فتم تسليط الأضواء على ما سمي بجماعة أبي مصعب الزرقاوي المرتبط بالقاعدة، والذي زُعم أنه يختبأ هو ومقاتلوه في الفلوجة، لذلك وجب تطهير هذه المدينة من هذه الجماعة المارقة.
4- ضرورة تجنب التغطية الإعلامية للعملية لكي تتم المجزرة الرهيبة دون شاهد أو مراقب أو مبلغ، فتطلق الأيادي للجيش الأمريكي للقيام بكل ما هو محظور وممنوع دون خوف أو خجل أو تحفظ، وكذلك لعدم إظهار الخسائر التي ستلحق بالجيش الأمريكي أمام العالم.
5- ثم أخيرا وخصوصا تقرر أنه لا مجال هذه المرة لإيقاف الحرب والهجوم إلا بعد دخول الفلوجة بأي ثمن ولو كلف ذلك محوها ومن فيها من الخارطة العراقية.
معركة الفلوجة الثانية
وبعد شهور من العمل الدؤوبالمتواصل المدروس، أصبح كل شيء جاهزا في مطلع أكتوبر 2004.
بدأ حصار الفلوجة من جميع الجهات والمداخل لمنع وصول أية مساعدات أو سلاح أو خروج للمقاتلين، وبدأ القصف الجوي المتواصل ليلا ونهار، لإرعاب الأهالي وقتل أكبر عدد منهم وإنهاك المقاتلين والتأثير على معنوياتهم، واستمر هذا القصف والحصار بدون انقطاع لمدة ستة أسابيع متتالية بدأت بعدها الحرب البرية، فتصدى مجاهدو الفلوجة كالمرة الأولى للمحتل وقاتلوه قتال الأبطال ببسالة وكفاءة أذهلت ضباط العدو وجنوده، فأسقط عدد من مروحياتهم ودمر وأعطب عدد من دباباتهم وآلياتهم التي يفتخرون بآدائها الميداني أمام العالم، وتساقط جنودهم الجبناء ما بين قتلى وجرحى لدرجة لم تستوعبهم المستشفيات العسكرية الأمريكية في العراق فاضطروا لإقامة جسر جوي لنقلهم إلى مستشفيات ألمانيا، فاعترف العدو بسقوط أكثر من خمسين قتيلا و450 جريحا والحقيقة أكثر منذلك بكثير، ولم يسمح لأي من وسائل الإعلام العربي أو الغربي بتصوير ما يحدث على الأرض، إلا أن ما كان يحدث على الأرض، كان رهيبا بشعا بكل المقاييس فاق بشاعة المغول والتتار والصليبيين، فكانت البنايات والمساجد والمستشفيات تدك فوق رؤوس أصحابها، والجرحى يجهز عليهم بدم بارد، والجثث ينكل بها وتشوه وتجر وتلقى في الشوارع.
استمرت المعركة أسبوعين كاملين لم يستطع الجيش الأمريكي الجبان الدخول إلى المدينة إلا بعد أن دمرها تدميرا كاملا ودفن أهلها تحت الأنقاض.
شباب الفلوجة : عرسان الجنة
أما خيرة شباب الاسلام، أما أحفاد صحابة رسول الله ، أما منارات الهدى في زمن الظلام فقد قاتلوا العدو حتى التحقوا بربهم ليستقبلوا استقبال المظفرين في جنات عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بعدما رفضوا أن يطأطئوا الرؤوس للظلم والطغيان أو يساوموا أو يستسلمواأو يفرطوا، بعدما قاموا بواجب تخلى عن القيام به مليار ونصف ممن ينتسبون لأمة الإسلام.
أما أنت يا مدينة المساجد، فيكفيك شرفا وفخرا أنك سطرت بدماء أبنائك وشهدائك ملحمة العرب والمسلمين ضد أعتى وأكبر قوة في العالم في زمن الانهزام والاستسلام والإحباط، لم ولن تسقطي وإنما ستبقين شامخة محلقة فوق كل مدن العالم، سيفا مسلطا على رقاب الظالمين المحتلين في كل العصور والأزمان.
أما أنتم يا من تواطأتم وتخاذلتم وشاركتم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أو سكتتم عن الجريمة، فللتاريخ معكم موعد لن تخلفوه، وحسابكم عند الله شديد أليم، والله أكبر والعاقبة للمتقين.