منذ ظهر الإسلامُ وتمكّن حضاريّاً وأخلاقيّاً وسياسيّاً والناعقون يلْهَثُون من ورائه قصد إيقاف مسيرته، بإثارة الغُبار حَوْل أُسُسِه ومبادئه، من : القول بوجود قرآن أبي بكر، وقرآن عثمان، وقرآن علي، وقرآن فاطمة، وقرآن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم جميعا، إلى القول بخلق القرآن، إلى التقاتُل على الأنْساب التي تستحقُّ أن يُسَلِّمَ الله عز وجل إليها مفاتيحً الحُكم والتحكُّم في رقاب العباد وثرواتِ البلاد، إلى التكفير والتبديع والتقاتل على أسماء الله عز وجل وصفاته مع إهْمَال الإجماع والاجتماع على قواطع أوامره ونواهيه، وصحيح الاعتقادِ فيه، إلى الافتتان بالطوائف والفِرَق المنَشَّأة في الأمّة قسْراً ودَسّاً كـ : السبئيّة، والجَهميّة والقدريّة، والبهائية والقديانية وغير ذلك من الفِرق التي عمَّقَتْ النّزيف في جسد الأمة قدديماً وحديثاً.
إلا أن التكالُب ازداد حِدّة أكثر فأكثر مع أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين للاعتبارات التالية :
1) تمكُّنُ الغزو الثقافي والإعلامي والفكري من المراكز التعليمية والتثقيفية صعوداً، وهبوطاً.
2) تمكُّن القُطب الواحِد من التحكم في السياسة العالمية وتصدير حضارته وسط عَجِيحٍ من الهَيْل والهَيْلُمان.
3) تمكّن الغزو العسكري من كَنْس ثرواتِ الأمة وتبديد طاقتها، وكسْر شوكتها داخليا وخارجيا.
4) تمكُّن القُطب الواحد من لَيِّ أعْناق النظم والأحزاب، وتوظيفها للتهليل به، والسجود له.
كان من نتائج هذه الاعتبارات وغيرها كثير، أن تَجرّأَ القُطبُ المُفْرَد -بعد بَلْع الثروة ووضع اليَدِ على الرؤوس- على قِيَم الأمة، وعُنوان عِزِّها ومَجْدها ووجودها، حيث تطاوَلَ على كتابها المقدَّس في توقُّحٍ غير مسبوق، فأعْملَ فيه اليَدَ تصنيعاًوتشويهاً ودعوةً لتعويض القرآن القديم بالقرآن الجديد، دعوةً لتطليق كتاب الله تعالى وقرآن المسلمين منذ كانوا، وإحلاَل >الفرقان الحق< -وهومن وضع مؤسسة أمريكية- مكانَه لمَسْخ المسلمين، وغَمْس رؤوسهم وعقولهم في مستنقعات الشياطين.
وهل هناك وقاحة أكبر من أن يطلب القُطب الأوحَدُ المُفرد من شَيْخ الأزهر طبع كتاب >الفرقان الحق< لإضفاء الشرعية على القرآن الجديد وجوداً، وإضفاء الشرعية على تداوُله ممارسة وتديُّناً وتمذهُباً، تلك هي الوقاحة التي يُحسَدُ عليها القطبُ الأوحَدُ، في عصْر صَمَت فيه صمْتَ القبور أصحابُ الحقِّ الأوحَدِ، وأصحابُ الدِّين الأوحَدد، وأصحابُ الكتاب الصحيح الأوحَد.. عن الدّعوة لدينهم الحق، فجاءت الشياطين تؤزُّهم أزّاً، وتهزُّ إيمانهم هزَّاً.
ولا يَظُنَّنّ أحدٌ أن هذا التطاول على أقْدَسِ مقدسات الإسلام عبقريَّةٌ لمْ يُسْبَقْ إليها، أبداً ليسَ هذا التطاوُل عبقريةً، ولا نِصْفَها، ولا رُبُعها، بل التطاوُل غباوةٌ كاملة، وبلادة شاملة، لأن كفار قريش سبقوا القُطبَ الأوْحد إلى هذه المقولة بقرون، حيث قالوا لرسول الله -عندما لمْ يعجبْهم هذا القرآن- : {إِيتِ بقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أوْ بَدِّلْهُ} فكان الجوابُ من الله تعالى على هذا الاقتراح الأرْعن : {قُلْ ما يَكُونُ لِيَ أنْ أُبَدِّلَهُ منْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، إِن أتَّبِعُ إلاَّ مَا يُوحَى إلَيَّ إِنِّيَ أخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُه عَلَيْكُم، ولا أدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أفَلاَ تَعْقِلُون}(يونس : 16) فكان هذا الجوابُ الربانيُّ إخْراساً للسَّفهِ الإنساني من جهة،وتأكيداً لربّانية القرآن من جهة أخرى، حتى لا يتطاوَل متطاولٌ في أي عصر من العصور على مضاهاة المعجزة القرآنية مهماكان قدْرُه وذكاؤه وعبقريته!! فلقد حاول السفهاءُ قديما محاكاةَ القرآن، فأتَوا بالبهتان، وبَاءُوا بالخُسْران!! فهَلْ يمكِنُ أن يَصِلَ إنسانٌ أتْقَن نحْتَ رجُل عظيم على الحجر إلى مرتبة الله الذي صوَّر الإنسان في الأرحام ثم خلقه بشراً سويا تَتَدفَّق الحياةُ في خلاياه، وتجري الدِّماء في عروقه، والأحاسِيسُ في أعصابه، ويختزن الذكاء في مُخِّهِ أو عقْله المغيَّب عن الأبصار؟!
الفرق بين البُلداء في عصر النبوة الصادقة وعصر النبوة الكاذبة أن الأوّلين طلبوا من الرسول نفسه أن يأتي لهم بقرآنٍ يناسبُ أهواءهم، وأن الأخِيرين ظَنُّوا أنّهُم قادرون على صُنْعِ النّبوّة وصُنْع القرآن، فَمَنْ هو الأبْلَدُ والأخْسَرُ والأسْفَهُ؟!
إن الأسطوانةَ المشروخة التي يدورُ في فَلَكِها هذا الإفْكُ والهَذَر هو تجديد الدّين، وقد مَهَّدُوا لهذا منذ عشرات السّنين بتجنيد مئات الأقلام والأفلام، إذاماتَ ناعِقٌ أو أخزاه الله تعالى قام ناعِقٌ يردِّد القَيْء الذي قَاءَه المخزيُّون الأولون بدون أن تَمْسَح قيئَهُن توبة أو إنابةٌ، وبدون أن يُفرّقوا بين الاجتهاد والتجديد إمْعاناً في الدّسِ، وإتقاناً للخَلْط والزّيْف، مع أن الفرق بينهما كالفرق بين السماء والأرض، والليل والنهار.
ذلك أن الاجتهاد يعني بذْل الوُسْع والطاقة، واستفراغَ الجُهْد في استخراج الأحكام واستنباطها من النصوص الشّرعية المُوثَّقة لتطبيقها على واقع يُريد أن يعيش في ظِلِّ دين يُومِنُ به، ويتَعَبَّد اللهَ بالخضوع لأحْكامه في غير مُواربة أو تحايُل.
وهذا النوعُ من النشاط الاجتهادي لم يتْركْه الله تعالى كلأً مباحاً يدوسُه ويتمرّغُ فيه كُلُّ من هَبّ ودَبّ من الدّوابِّ الصُّمِّ البُكم الذين لا يفقهون للدِّين معنًى، ولا يُدركون للإنسانية قيمةً. ولكن الله عز وجل اختار لهذا الصنف من النشاطِ أُولي الألباب السائرين على هَدْي النبوّة ونُور الرسالة من العلماء المتبحِّرين في علوم الشرع والعصروالمصر، والمتزوّدين من مشكاة التقوى وروح الخشية من الله المطّلع على السرائر والضمائر.
أما التجديد فيعني إحْياءَ ما انطمَسَ مِنْه، وإعادةَ بنائه كما كان أوَّلَ نزوله وظهوره، أي :
1) تحديد الصلة بالله تعالى تعبُّداً، وطاعة، واعتماداً عليه وحده، وطمعاً في مرضاته وحده.
2) تجديد الصلة بكتابه تلاوة، وحفظاً، وفهما، وفقها، وتطبيقا، واستنباطا منه ما يغطي العصر من الأحكام.
3) تجديد الصلة بسيرة الرسول وسنته اقتداء، وفهما وفقها، واستنباطا.
4) تجديد الصلة بالشريعة الإسلامية تطبيقا لها، واعتقاداً بصلاحيتها لكل زمان ومكان.
5) تجديد الصلة بالرعيل الأول المشهود له بالخيَرة صدقا وإخلاصاً، وحُسْن فهم وحسن تنزيل.
6) تجديد روح الاستعلاء الإيماني، وروح الاعتزاز بالانتماء لخير رسالة وخير دين {إنْ تَكُونُوا تَالَمُون فإنَّهُم يَالَمُون كَمَا تَالَمُون وتَرْجُون منَ اللَّهِ مالاَ يَرْجُون}(النساء : 103).
7) تجديد روح التحدّي بهذا الدين {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُون بِنا إلاّ إحْدَى الحُسْنَيَيْنِ ونَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُم أنْ يُصِيبَكُم اللهُ بِعَذابٍ منْ عِنْدِه أو بِأَيْدِينا فَتَربّصُوا إنّا مَعَكُم مُتَرَبِّصُون}(التوبة : 52).
8) تجديد النظرة للعصر على أساس استيعاب المستجدات وملاحقاتِها بالتشريع المناسب لروح المقاصد الإسلامية بصدْر رحْب لا يضيق بالتطور العلمي والتقني والإداري والتنظيمي، ولا يعجز عن ردّ الفروع للأصول.
9) تجديد النظرة للعلاقات الداخلية والخارجية في إطار الترشيد للانفتاح والانغلاق، والأخذ والعطاء.
هذه بعض الملامح التي على أساسها يتم التجديد للدين حقا وصدقا، وهي مهمّةٌ يقوم بها الدّعاةُ الرّبانيُّون المنوط بهم تجديدُ حلاوة الإيمان في النفوس بعد الشعور بفتور الهِمَم، وتجديدُ الشوق للجنة ولقاء الله عز وجل بعد استفاقة من سكرتي الجهل وحب الدنيا، وهؤلاء العلماء الربانيُّون، والدّعاة الملذوعون هم الذين تكفّل الله ببعثهم بين الحين والآخر ليجدِّدوا طَعْم الإيمان في النفوس بعد ما وَهَى عزمُها، قال : >إنّ اللَّه يَبْعَثُ لهَذِهِ الأُمَّةِ علَى رَأْسِ كُلِّ مائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا<(أبو داود وغيره) وهم الذين أشار إليهم قولُ الله عز وجل {ثُمّ أوْرَثْنَا الكِتَابَ الذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ومِنْهُم مُقْتصِدٌ ومِنْهُم سَابِقٌ بالخَيْراتِ بإذْنِ اللّه ذَلِك هو الفَضْلُ الكَبِيرُ}(فاطر : 32)، فهم يجددون الدين من صُلْب الكتاب الذي أورثهم الله عز وجل إيّاه بمقتضى الاصطفاء الرباني لوظيفة الدّعوة التي رَفَع لواءَها وارثُ الأنبياء جميعا وإمامُهم محمد، فهم من الكتاب الموْرُوثِ يجددون، ومن الاصطفاء الربّانيّ ينبَعِثُون، أما الذين يصنعون الضلالات صُنْعاً، ومن مزابل التاريخ الشيطاني ينْبَعِثون ويهرطقون، فهؤلاء لا يتعدى قدْرُهم قدْر مسيلمَة الكذاب وإخوانه من السابقين له، واللاحقين به، وهؤلاء سيأتي يوْمُ >يَمَامَتِهِمْ< ليفتَحَ أعْيُنَهم على الفرقان الحقّ حَقّا وصِدْقا، والفرقان المُزوَّر حقا وصدقا، وإذ ذاك {وسَيَعْلَمُ الذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}(الشعراء : 226).