هوس التطور
التطور.. التقدم.. التغيير.. شعار النخبة الثقافية.. بل دينها وديدنها!، ومعه وفيه شعارات الحداثة والمعاصرة.. وضده كل قبيح منبوذ كريه : الثبات والإطلاق والخلود.. وإن شئت أن تسعد نفسًا، أو تطرب قلبًا، أو تستميل عقلاً فصف صاحبه بالتطور أو انـْعته بالتقدم، أما إن أردت أن تهين كاتبًا أو تنفر من مذهب فَاعْمد إلى الثبات فأَلْصِقْه به!، ولقد بلغ الهوس بأحدهم حد القول إن الله هو التقدم! وهكذا الشأن في الدول أيضًا، فدول العالم تـُصنَّف على أساس التطور : أَرْفَعُهنَّ المتطورة ووسطهن التي تسير في طريق التطور وأحطـُّهن غير المتطورة.
وتأمل عناوين المؤسسات وأسماء الأحزاب والصحف تجدها تتبارى في التسمي بالمتطورة والتقدمية والحديثة والمعاصرة والجديدة.. وهذا كله تقليد بحت غير نقدي للتوجهات التطورية الأوربية.. وقد نشرت مئات الكتب وآلاف المقالات وانعقدت عشرات المؤتمرات للحديث عن التطور والحداثة والتجديد.. وانقسم العالم الإسلامي كله إلى أنصار للتطور وأنصار للإسلام الذي أَلْصقوا به وَصْمَةَ الجمود والتحجر لأنه يتبنى ثوابت مطلقة خالدة!
ولقد مددوا نطاق التطور لكي يشمل كل شيء من الحياة الحيوانية (كما هو أصل نظرية دارون) إلى الحياة الإنسانية، والمجتمع البشرى وتركيبه، والعلاقات الاجتماعية بين الأفراد والطبقات، والنظم السياسية والاقتصادية والتربوية، والمبادئ التشريعية والقيم الأخلاقية والأدوات والوسائل التقنية، والعلوم المادية والإنسانية.
وقد ظن الأستاذ فريد وجدي أن مذهب التطور الشامل هذا لا علاقة له بالدين وهذا خطأ ويكفى أن نذكر أن نظرية التطور تناقض ما جاء في الإسلام عن خلق الإنسان، والثقافة الإسلامية تُعتبر عندهم ثقافة منحطة على سلم التطور! فإما التـطور وإما الفناء ولا خيار أمام المسلمين سوى هذا!
مقولة رددها تطوريون عديدون في الشرق والغرْب، من ذلك مثلاً قول هاملتون جيب المستشرق الإنجليزي الكبير “إن الإسلام ليس له أي مستقبل؛ لأنه لم يظهر أية قدرة على التكيف مع الأفكار الجديدة”.
و”الأفكار الجديدة” هي الفلسفات الأوربية الحديثة، العلمانية، المادية، فإذا تكيف معها الإسلام كان على المسلمين أن يستبدلوا المرجعية العلمانية ـ وهى الخبرة البشرية ـ بالمرجعية الإسلامية وهى القرآن والسُّنة، وبهذا يُنبذ الإسلام شيئًا فشيئًا حتى يتم هجره، ثم فناؤه، ويصبح تاريخا أو تراثًا لا صلة له بالحياة.. فالإسلام ليس له مستقبل سواء تكيف مع الأفكار الجديدة أو لم يتكيف! لكن “جيب” وأمثاله يُوحون للمسلمين بأن الإسلام يمكن أن يعيش إذا هو ساير الفكر الأوروبي!
ومن المؤسف أن أعدادًا من أبناء المسلمين صدقوا مقولة “جيب” وروَّجوا لها تحت اسم الحداثة والتطور والتغيير والتقدم والتحرر من التقاليد، غير أن مرور أكثر من نصف قرن على مزاعم الفناء لم تظهر فيه الأعراض الدالة على الفناء على الأمة المسلمة؛ وإنما حدث العكس فنهضت الأمة المسلمة واستردت استقلالها، وشرعت تتقارب شعوبها وتشكل المنظمات الإسلامية الوحدوية.. وازدهر التديُّن وأقبل المسلمون على دينهم إقبالاً عظيمًا، وفى الوقت نفسه ظهرت أمارات الضعف على “الأفكار الجديدة” أعنى الثقافة الغربية، باعتراف الأوروبيين أنفسهم ولم يعد “الغرب” مثالاً يحتذى.
لكن كتابًا عديدين عندنا لا يزالون يروجون لفكرة مسايرة الغرب؛ ولا يزال الغرب أيضًا يروج للفكرة نفسها، فالنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية يجب أن تساير النظم الغربية.. والمسلمون رجالاً ونساءً يجب أن يسايروا الغربيين في كل شيء؛ بما في ذلك أنواع الطعام والشراب، ناهيك عن العادات والتقاليد والأزياء واللغة والتقويم والفنون والآداب.. وكل شيء.
و”التطور” هو أصلح لفظ نضع تحته مجموعة المشكلات التي تضم : التغير والثبات، والنسبية والإطلاق، والإبدال والإحلال، والجمود والمرونة، والصلاحية لكل زمان ومكان.. وكل القضايا التي من هذا القبيل.
والثابت والمتغير في شريعة الإسلام لهما أصولهما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ من ذلك على سبيل المثال قوله تعالى {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً}(المائدة : 3 )، وقوله تعالى {وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ (115)}(الأنعام) فالإسلام هو الدين التام الكامل الذي ارتضاه الله لعباده؛ والتام الكامل لا يُغَـيَّر أو يُبـدَّل، لأن أي تغيير فيه انتقاص من كماله.. فهو ثابت خالد مطلق، وهذا ما سنراه بوضوح في هذا الفصل الذي يعرض نماذج لما قاله الإسلاميون في القديم والحديث عن الثابت والمتغير في شريعة الإسلام.
والسُّـنة النبوية ذكرت “العفو” أو “ما لا نص فيه” من الأفعال؛ وهو مجال واسع للتغيير والتطوير والتحديث في العلوم المادية والتقنية والصناعية والإدارية.
وقد واجه علماء الإسلام الأوائل التحدي الفلسفي الذي تمثل في فكر السوفسطائية من اليونانيين القدماء ودحضوا آراءهم السلبية المنكِـرة للوجود والمعرفة والثوابت، وتكررت المواجهة في العصور الحديثة خصوصًا بعد ذيوع الفلسفة التطورية عند “دارون”.. وهنا نعرض نماذج لآراء الإسلاميين القدامى والمحدثين الذين عارضوها.
د. أحمد عبد الرحمن