ضرورة اكتناز الماضي لفقه الواقع واستشراف المستقبل
< نرحب بك في المغرب على هامش الملتقى الدولي للأدب الإسلامي، الذي يقام حول موضوع أدب الحركة الإصلاحية، وقد أثيرت -أستاذنا الكريم- مجموعة من القضايا والإشكاليات في هذا اللقاء، هل باعتقادكم تشكل تراكما وإضافات بالنسبة لموضوع أدب الحركة الإصلاحية؟
>> بسم الله الرحمان الرحيم، دائما أنا أرى أن الحضارة لا تصنع بقرارات فوقية ولا تصنع بقفزات، وإنما تصنع بالتراكمات ينبني بعضها فوق بعض، يقف بعضها فوق بعض، ولهذا أنا دائما أحسن الظن بكل المؤتمرات، ولاسيما تلك التي تأخذ طابعا علميا، وأصارحك القول إنني تعرفت على شخصية مثل شخصية علال الفاسي منذ القديم، وأظنني أعرف كتابه في العقيدة والشريعة في إحدى المجلات في المشرق العربي -في الكويت تحديدا- وتعرفت أيضا على الأستاذ عبد الله كنون وعلى غيرهما من الشخصيات الرائدة والرائعة من الشخصيات التي عرضت عنها بحوث في هذا الملتقى، لكنني اكتشفت أعماقا جديدة وكثيرة لم أكن لأحصل عليها لو لم يكن لدي وقت لأقرأ كل أعمالها وما كتب عنها في يوم واحد أو يومين، أعتقد أنني اجتزت آفاقا معرفية كثيرة وتعرفت على أنماط من التجديد عند هاتين الشخصيتين مثلا وغيرهما من الشخصيات التي عرضت كشخصية البشير الإبراهيمي الجزائري وكشخصية مالك بن نبي، وهو مطروح دائما في المغرب العربي. وهكذا نستطيع القول إنه من خلال البحوث و المداخلات، ومن خلال التفاعل بين المحاضر و المتلقي يستفيد الإنسان في يوم واحد مالا يستفيده في شهر، وربما لا يفكر أن يغذي به نفسه في عصر التراكم المعرفي الهائل، وبالتالي فإني أعتبر أن ما تم هو إضافة، نحن في كل يوم سواء على مستوى الجامعات أو على مستوى الروابط الأدبية والعلمية نجد أن هناك تقدما وتواكبا مع العصر، هذا التقدم وهذا التواكب لم يأت من فراغ، وإنما جاء من مثل هذه الحلقات النقاشية والورشات العلمية والمؤتمرات وما إلى ذلك، وفن الحوار وفن التفاعل، وفن التكامل، وفن احترام الرأي الآخر، إنما يأتي عن طريق مثل هذه اللقاءات، فأنا أتفاءل بها وأستبشر بها.
< الأستاذ الكريم، كان لك إسهام بَيِّن وواضح في هذا الملتقى، رأينا حرصك على المناقشة والحوار، وكان لك اهتمام واضح بتحديد المفاهيم نظرا لخطورة هذا الأمر في البناء الثقافي والحضاري، وفي التدافع بين حضارة الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم، فنريد أن نعرف ما هو حجم الخطورة التي تستشعرونها إزاء هذه القضية، قضية المصطلح؟
>> يا سيدي الفرق بيننا وبين الحضارة الأوروبية هو فرق في تحديد المفاهيم، لا أحد أبدا يجادل في حق الإنسان، وفي كرامة الإنسان، وفي واجبات الإنسان، وفي أن يكون الإنسان متمتعا بحقوقه التي تليق به كإنسان، ولا أحد يجادل في أهمية الحرية،وفي ضرورة الحرية، وأن الحرية هي قرين وصنو للإنسانية. وإنسان عبد، إنسان فقد الكثير من إنسانيته، ولا أحد يجادل أيضا في قضية الانفتاح على الآخر وضرورة الاستفادة من التجارب الإنسانية عبر العالم كله، ليس عبر أوربا وأمريكا وحدهما، بل عبر العالم كله، عبر الصين والتجارب الهندية واليابانية وما إلى ذلك. ولا أحد يجادل أيضا في قضية العقلانية واحترام العقل وضرورة تشغيله، ولا أحد يجادل أيضا في ضرورة ألا نقف عند الماضي فقط، وإنما يجب أن نكتنز الماضي كأنه حاسوب وذاكرة لنا، ثم ننطلق من هذا الماضي لفقه واقعنا ولاستشراف آفاق مستقبلنا، مستفيدين من كل ما يقدمه العصر، لا أحد يطالب بأن نعيش في الماضي من ناحية الآليات والوسائل والأشياء التي من هذا القبيل، ولكن حتى الذين يحنون إلى الماضي، وكلنا نحِنُّ إلى الماضي وننتمي إليه، إنما يقولون فقط بضرورة أن تكون القيم التي لا ينظر إليها لا على أنها ماض ولا على أنها حاضر ولا على أنها مستقبل، لأن القيم قيم، الصدق صدق والأمانة أمانة والأخلاق أخلاق و الفضيلة فضيلة. إذا جاءت الإنسانية الآن تريد أن تلغي العفة والشرف والفضيلة والصدق، وتجعل الدبلوماسية نوعا من الكذب وتجعل الغاية تبرر الوسيلة، نحن نقول لا، الثوابت الإنسانية، الاعتراف بحق الله، وإجلال الله كما ينبغي أن يجل، الاعتراف بالحق الإنساني للإنسان، الحفاظ على كرامة المرأة وإنسانيتها وحقها المتوازي مع الرجل، كل هذه الأشياء مفروغ منها. وإنما يبقى الفرق في المفاهيم، تأتي أوروبا وأمريكا ومن يدورون في فلكهم، مع الأسف الشديد ممن يحسبون على الإسلام والمسلمين ليتحدثوا عن الحرية بمعناها الليبرالي، حيث يصبح الزنا حلالاً، والشذوذ مباحاً، وهو من أسباب تدمير الحضارات، ونحن نعرف ما أصاب قوم لوط، وما أصاب الحضارات التي تسيبت في هذه النواحي، الزنا واللواط، ويقولون إن الجسد ملك للإنسان وأن الحياة ملك للإنسان، الإسلام يرى أن لا الجسد ملك للإنسان ولا الحياة ملك للإنسان، بدليل أن الإنسان يولد بلا اختيار ويموت أيضا بلا اختيار، وأنه سيسأل أمام الله، هذا مثل ، المثل الثاني قضية الحرية منضبطة عندنا بالقواعد الشرعية، قضية الإنسان؛ عظمة الإنسان أن يكون سيدا مستخلفا عن الله، وأظن أن هذه أرقى درجات الحرية، ولكنه مع ذلك عبد لله، يأتمر بأوامر الله وينتهي بنواهيه، منضبط ، وهذا من مصلحة الإنسان، من مصلحتي ومصلحتك ونحن نقود السيارات أن ننضبط بشارات المرور و إلا فإننا نعرض الحياة الإنسانية، إما حياتنا أو حياة الآخرين للهلاك.
يأتي الوحي، وتأتي الشريعة ويأتي الدين ليضبط إيقاعات الإنسان ومسارات الإنسان، حرصا على الإنسان، أما هؤلاء الذين يقودون سفينة الإنسان للغرق فهم يريدون إنسانا حرا بالمعنى الحيواني، وحرية مطلقة بهيمية، ويريدون انقطاعا معرفيا عن الماضي، وعن القيم وعن الأديان وعن الأخلاق وعن الله وعن فعل الله في التاريخ، وعن هيمنة الله على التاريخ، ويريدون إنسانا متألها، إنسانا لا ينظر إلى الله ولا يحترم الله ولا يحترم القوانين، هو القانون وهو الغاية وهو الوسيلة، كل هذا الكلام كلام ماسوني صهيوني تدميري للحضارة. من هنا، في هذه المفاهيم نختلف تماما ونصر على ثوابتنا وعلى مواقعنا الحضارية.
< الأستاذ الكريم لقد قدمتم عرضا قيما حول المفكر و الداعية الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- من خلال كتبه وإسهاماته، أريد منكم أن تتفضلوا وتحدثونا عن النزعة الأدبية عند الشيخ الغزالي، خاصة وأنه يلقب بأديب الفقهاء. و ما هي العوامل التي ساهمت في طبع أسلوب الغزالي رحمه الله بهذا الطابع؟
>> الشيخ الغزالي كان قارئا جيدا للأدب العربي، وكان حافظا لكثير من الشعر العربي، وكان يستشهد به في كثير من المواقف، وفي كثير من كتاباته، بل إن بعض كتاباته حفلت بقصائد يصل بعضها إلى عشر أبيات أو خمسة عشر بيتا مما كان الشيخ الغزالي يستحي أو يخجل من أن يأتي بها كلها، لما فيها من معان سامية.
والشيخ الغزالي نتيجة هذه القراءة وهذه الثقافة ملك أسلوبا رائعا، إلى درجة أذهلت الشيخ حسن البنا نفسه، وكان يقول له: أُكتب وروح القُدُس معك.
والأمر الثاني أن الشيخ الغزالي كان يخرج الكلمة من قلبه وعقله، وأنت تعرف أن الأدب ينبع من القلب ومن الوجدان، وبعض الذين يتكلمون من عقولهم فقط ولا يحركون بقية الطاقات، تصبح أساليبهم قانونية وعقيمة، وقد يتجلى هذا في كثير من الفلاسفة أو العلماء الرياضيين أو الفلكيين الذين لا يحسنون تقديم الحقائق، بينما هناك علماء حتى في أدق العلوم نجحوا في تقديم الحقائق بأسلوب مشرق، أذكر من هؤلاء “ويل ديورانت” في كتابيه: “قصة الحضارة” و”مناهج الفلسفة”. كان أيضا ذا أسلوب مشرق، وحتى في “قصة الحضارة” كان هناك أيضا أسلوب مشرق، فالعلم لا يتنافى مع الأسلوب المشرق، ونحن جميعا نعلم أن القرآن الكريم كتاب علم {وفصلناه على علم وهدى ورحمة لقوم يومنون} لعله كتاب علم وهدى ورحمة ويهدي للتي هي أقوم إلا أنه بني على البيان، وعلى الإشراق.
الشيخ الغزالي نستطيع أن نقول إنه كان رجلا قرآنيا، كان رجلا بدويا، والرسول كان يملك مما أفاء الله عليه، الكثير من الكلمة المعجزة أو ما يسمى بالمعاني الكثيرة في القالب اللفظي القليل، جوامع الكلم، يملك جوامع الكلم، كلمة صغيرة من نصف سطر، – سبحان الله- تكون لها إشعاعات مضيئة في كلام رسول الله . فالشيخ الغزالي استقى من كل هذا؛ من قلبه، من ثقافته، من فكره، لذلك تجده وهو يتكلم عن الإسلام والأوضاع الاقتصادية أديبا، يتكلم عن نظرات في القرآن أديبا، يتكلم عن الاستبداد السياسي أديبا، وأنا قلت في صدر بحثي إن الشيخ الغزالي كان أديبا في كل ما كتب، ومن الصعب أن تحصر أدبه في جانب واحد من الجوانب، له ديوان شعر وله كتابات راقية يغلب عليها الأدب فعلا، ولاسيما في كتابه “جدد حياتك” وهو كتاب تعليق على كتاب ” دع القلق و ابدء الحياة”، وله أيضا كتاب “الجوانب العاطفية في الإسلام”، ربما استقى أيضا من نبع البيان الذي تميز به رجل مثل ابن عطاء الله السكندري صاحب الحِكم المأثورة؛ “حِكم ابن عطاء الله السكندري”، أدب راق أيضا، استقى من كل هذا، لكن أيضا هذه المسحة الأدبية نجدها في كل كتبه، لدرجة أن بعض أساتذتنا، كتب بحثا عن الشيخ الغزالي، عن لغة الشيخ الغزالي، فن اللغة، فن استخدام الكلمة،فن الكلمة التي تحمل إيقاعا عند الشيخ الغزالي، ومن هنا أنا أستطيع أن أقول إن كل كتب الشيخ الغزالي؛ ما يتصل بفقه السيرة، ما يتصل بقضايا السنة، بقضايا القرآن، التفسير الموضوعي للقرآن، ما يتصل بالأحوال الاقتصادية والسياسية والنفسية والاجتماعية، ما يتصل بكل ذلك كان أدبا راقيا،أنت تقول إن الشيخ الغزالي كان فقيها أو أديب الفقهاء، أنا أقول لك أن الشيخ الغزالي كان أديب الفقهاء وأديب الدعاة، أديبا إذا خطب وأديبا إذا كتب، كان أديبا أيضا وهو يبحث في الاقتصاد الإسلامي، كان أديبا أيضا وهو يبحث عن النظام السياسي الإسلامي، هكذا تستطيع أن تحمل كلمة الأدب إلى كل الآفاق التي كان يشتغل بها الإمام الغزالي.
< ذكرتم في عرضكم خطب الشيخ الغزالي وقلتم إنه “لم يبكني خطيب مثلما أبكتني خطب الشيخ” أريد منكم أن تحدثونا عن خصائص الخطبة عند الشيخ الغزالي رحمه الله؟
>> لنا صديق جزاه الله خيرا يعمل الآن في الجامعة الإسلامية بباكستان -الأستاذ قطب- جمع خطب الشيخ الغزالي في حوالي سبع أو ثمان مجلدات، خطب تنضح بالإشراق اللفظي والبيان، تنضح بالكلمة المخلصة، الشيخ الغزالي في المرحلة الأولى عندما كان يعد خطبه باعتبار أنه ليس موقوفا على مسجد واحد، ولا على مكان واحد، والإنسان عندما يكون غير موقوف على مكان واحد يستطيع أن ينقل المعلومات من هنا إلى هنا، لكن إذا حصر في مسجد يلزمه أن يجدد المعلومات لأن ما يقوله في هذا الأسبوع سيسمعه الناس في المرة الثانية أو الثالثة ويبدأ الملل، هنا كان الشيخ الغزالي يعد خطبته، لكن إعداد الشيخ الغزالي لخطبته ليس كإعداد الخطباء الضعاف الذين لا ثقافة لهم، الشيخ الغزالي حسبه أن يعد الموضوع في ذهنه وأن يستحضر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والنصوص التي تغذي هذا الموضوع، ثم بعد ذلك يترك لثقافته ولفكره ولأسلوبه العفوي التلقائي الكلام في الخطبة. ما كان الشيخ الغزالي يحفظ الخطبة، وأنا أزعم وأنصح إخواني الدعاة أن كل من يحفظ خطبه لا يستطيع أن يؤثر في الناس، لابد أن تخرج الخطبة من قلبك ومن وجدانك، فقط عليك أن تحصر الموضوع، أن تحضر النصوص الدينية سواء من القرآن أو السنة، أن تحضر الأبيات الشعرية التي تحتاج إليها، أن تحضر أركان الخطبة ومناطق الخطبة كأركان البحث العلمي الذي تقدمه في الماجستير والدكتوراه. الخطبة لابد أن ينظر إليها على أنها علم سيقدم للناس، لكنها علم يراعى فيه أن يخاطب كل الناس قدر الاستطاعة، وأن لا يرتفع كثيرا على مستوى الناس، ويراعى فيه أن يزود الناس بجديد، وبثقافة جديدة، وأيضا يراعى فيه أن يخاطب الوجدان وأن يعالج الواقع، لابد من التعريج على الماضي للأخذ منه وعلى الواقع لمعالجته، وعلى التحديات المرتبطة بنا تربويا وعلميا وثقافيا لنحصن الأمة، وأنا دائما كنت أقول إن الخطباء لو فقهوا رسالتهم لكانوا أعظم من “C.N.N ” ومن الجزيرة ومن كل القنوات الفضائية، لأن الذين يجلسون إليهم يسمعون ويخضعون ويعملون، ولأنهم يملكون في كل أسبوع منبرا يستطيعون به أن يمسحوا كل الأكاذيب الإعلامية، ولكن المصيبة الآن أنالكثير من الخطباء دون المستوى لأنهم لا يجددون أنفسهم ولا يقرؤون ولا يتابعون الواقع ولا يفقهونه، ولا يحاولون أن يتعلموا من الكبار ولا يحضرون الندوات والمؤتمرات، ويقتصرون على ما بين أيديهم من كتب سقيمة أو قديمة، وأيضا لا يلقحون أفكارهم ولا يتفاعلون التفاعل الميداني والعملي، لأن من شأن الخطيب أن يكون عالما نفسيا وأخصائيا اجتماعيا وموجودا في المجتمع وحاضرا فيه وحاملا لِهَمِّ الأمة الإسلامية كلها، ولِهَمِّ الأرض التي يقف عليها، المغربي يحمل هم المغرب أولا وهم المسلمين ثانيا، والمصري يحمل هم مصر أولا والمسلمين ثانيا وهكذا.