سورة الأنفال مدنية، اهتمت بقضايا متعددة منها : التشريع وبيان بعض الأحكام وخاصة الجهاد، الذي تمثل ميدانياً في غزوة بدر التي كانت فاتحة الغزوات في تاريخ الاسلام ، معبرة عن أرقى درجات التضحية والفداء في سبيل الدعوة الوليدة.
كما تناولت السورة أموـــر الســلم وأحــكام الأســرة والغنائم..
كانت غزوة بدر من أولى أهم الجولات التي دارت بين الحق والباطل وإنقاذ المستضعفين رغم ضعف العدد والعدة وعدم تهيئ المسلمين للقتال.
في هذه التأملات في سورة الأنفال، سنحاول رصد بعض القضايا العقيدية والتشريعية التي أثيرت لتؤسس أركاناً أساسية في بناء الدولة الاسلامية الناشئة
تنقيـة الانسـان مـن الأطمـاع وحـب الـمال
قال تعالى : {يسألونك عن الأنفال، قل الأنفال لله والرسول، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين}(الأنفال : 1).
المال بين النعمة والنقمة
المال نعمة من نعم الله على عباده، وهو سلاح ذو حدين : نعمة إذا صرفه الإنسان فيما يرضي الله(1)، ونقمة على صاحبه إذا صرفه بغير حقه في الشهوات والملذات(2)، وقد يسمو المال بصاحبه إلى أعلى الدرجات، إذا أسعف به المحتاج، وأطعم اليتيم، وقدم ما يلزمه شرعا من العون للمعوزين، وقد يكون المال سبب شقاء صاحبه، إذا جمعه من الكسب الحرام، ومنع ما أوجبه الله عليه من حقوق. والمال محبب للنفوس بتدبير من الحق سبحانه. قال تعالى : {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة..}(آل عمران : 14).
والذي يحفظ للانسان توازنه اتجاه المال هو الإيمان بالله سبحانه والتسليم لأوامره، لأن حب المال غريزي في الانسان، ووجوده ضروري بنسبة ما لقضاء مآرب الحياة الدنيا. قال تعالى : {المال والبنون زينة الحياة الدنيا}(الكهف : 45).
وفي سياق ما سبق يقولسيد قطب يرحمه الله في “زين للناس”(3) : وصياغة الفعل للمجهول هنا تشير إلى أن تركيبهم الفطري (أي الناس) تضمن هذا الميل، فهو محبب (أي المال) ومزين… وهذا تقرير للواقع من أحد جانبيه. ففي الانسان هذا الميل إلى هذه “الشهوات” وهو جزء من تكوينه الأصيل، لا حاجة إلى إنكاره، ولا إلى استنكاره في ذاته، فهو ضروري للحياة البشرية كي تتأصل وتنمو… ولكن الواقع يشهد كذلك بأن في فطرة الانسان جانبا آخر يوازن ذلك الميل، ويحرس الانسان من أن يستغرق في ذلك الجانب وحده، وأن يفقد قوة النفخة العلوية، أو مدلولها، وإحاءها، هذا الجانب الآخر هو جانب الاستعداد للتسامي، والاستعداد لضبط النفس، ووقفها عند الحد السليم من مزاولة هذه “الشهوات”، الحد الباني للنفس وللحياة، مع التطلع المستمر إلى ترقية الحياة ورفعها إلى الأفق الذي تهتف إليه النفخة العلوية، وربط القلب البشري بالملأ الأعلى والدار الآخرة ورضوان الله. هذا الاستعداد الثاني يذهب الاستعداد الأول، ويقيه من الشوائب، و يجعله في الحدود المأمونة التي لا يطغى فيها جانب اللذة الحسية ونزعاتها القريبة، على الروح الانسانية وأشواقها البعيدة… والاتجاه إلى الله وتقواه، هو خيط الصعود والتسامي إلى تلك الأشواق البعيدة<.
هذه الصورة للانسان النموذج الذي ترتفع نفسه عن أدران المادة عندما تريد أن تنحط بها عن المستوى الشريف المطلوب هو ما يمثله صدر سورة الأنفال. في شخص ثلة من الصحاب الكرام، الذين نهلوا من معين رسول الله . وذلك ما تجسمه الآية الكريمة: {يسألونك عن الأنفال} يقول أبو حيان(4) : “طَوَّل المفسرون في تعيين سبب نزول هذه الآيات، وملخصها : أن نفوس أهل بدر تنافرت، ووقع فيها ما يقع في نفوس البشر من إرادة الأثرة والاختصاص. فنزلت ورضي المسلمون وسلموا، وأصلح الله ذات بينهم”. وهذا الذي أجمله أبو حيان يفصله ابن كثير بعض التفصيل في روايتين : أولاهما(5) : “قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن سلمة عن أبي أمامة قال : سألت عبادة عن الأنفال فقال : فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل(6)، وساءت فيه أخلاقنا، فانتزعه ا لله من أيدينا وجعله إلى رسول الله ، فقسمه رسول الله بين المسلمين…”. وثاني الروايتين : “قال الامام أحمد أيضا… عن عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع رسول الله فشهدت معه بدرا، فالتقى الناس، فهزم الله تعالى العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، وأقبلت طائفة على العسكر(7) يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت(8) طائفة برسول الله، لا يصيب العدو منه غِرَّة(9)، حتى إذا كان الليل، وفاء(10) الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناه (11) فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق به منا. نحن منعنا عنه العدو وهزمناهم، وقال الذين أَحْدَقوا برسول الله : خِفْنا أن يُصيب العدو منه غِرة فاشتغلنا به فنزلت {يسألونك عن الأنفال}.
في إطار هذا الخلاف الذي جرى بين الصحابة رضوان الله عليهم باعتبارهم بشرا. والرسول بين ظهرانهم حكى لنا القرآن الكريم سؤالهم الذي وضعوه بخصوص الحجة التي أدلى بها كل فريق مدعيا أن له الحق -اعتبارا لحجته- في نصيب من المال الذي غنموه على تلك الصورة المذكورة أعلاه.
{يسألونك عن الأنفال} (12) “حكمها ولمن تكون، ولذا جاء الجواب (فَضِّا للنـزاع) : {قل الأنفال لله والرسول} أي “ليس فيها لأحد من المهاجرين، ولا من الأنصار، ولا فوض إلى أحد، بل ذلك مفوض لله على ما يريده، وللرسول حيث هو مبلغ عن الله الأحكام” {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} (13) أي اتقوا الله في أموركم، وأصلحوا فيما بينكم، ولا تظالموا، ولا تخاصموا، ولا تشاجروا، فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه” هكذاأمر الحق سبحانه الصحابة بالتقوى بعد إصدار حكمه العلوي في شأن المسألة التي اختلفوا فيها (14) “ليزول عنهم التخاصم ويصيروا متحابين في الله، وأمر بإصلاح ذات البين وهذا يدل على أنه كانت بينهم مباينة ومباعدة وربما خيف أن تفضي بهم إلى فساد ما بينهم من المودة والمعافاة”.
هكذا يذكر الله سبحانه هؤلاء المؤمنين، وهم في لحظة الهبوط الروحي، بتلك الصفات الممتازة التي ترفع من شأنهم وتجعلهم خلقا آخر ليس كبقية الناس من الذين لم تلامسهم نفحة الإيمان{ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}(15) “لقد كان الهتاف لهذه القلوب التي تنازعت على حطام الدنيا الانفال، هو الهتاف بتقوى الله، إنه لا يرد القلب البشري عن الشعور بأعراض الحياة الدنيا والنزاع عليها ـ وإن كان هذا النزاع متلبسا هنا بمعنى الشهادة بحس البلاء ـ إلا استجاشة الشعور بتقوى الله وخوفه وتلمس رضاه في الدنيا والآخرة” يقول أبو حيان (16) :”وأمر تعالى أولا بالتقوى لأنها أصل للطاعات، ثم بإصلاح ذات البين لأن ذلك أهم نتائج التقوى في ذلك الوقت الذي تشاجروا فيه، ثم بطاعته وطاعة رسوله فيما أمرهم به من التقوى والاصلاح وغير ذلك”.
(17) “إن التقوى زمام هذه القلوب الذي يمكن أن تقاد منه طائعة ذلولة في يسر… وبهذا الزمام يقود القرآن هذه القلوب إلى صلاح ذات بينها {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}، وبهذا الزمام يقودها إلى طاعة الله ورسوله {وأطيعوا الله ورسوله}. وأول طاعة هنا هنا طاعته في حكمه الذي قضاه في الأنفال. فقد خرجت من أن تكون لأحد من الغزاة على الإطلاق، وارتدت ملكيتها ابتداء لله ورسوله فانتهى حق التصرف فيها إلى الله والرسول، فما على الذين آمنوا إلا أن يستسلموا فيها لحكم الله، وقَسْم رسول الله، طيبة قلوبُهم، راضية نفوسُهم. ثم قـال : {إن كنتم مؤمنين} أي إن كنتم كاملي الإيمان. قال ابن عطية(18) : “كنا يقول الرجل إن كنت رجلا فافعل كذا أي إن كنت كامل الرجولية”.
ولا بد للايمان من صورة عملية واقعية يتجلى فيها، ليثبت وجوده. ويترجم عن حقيقته كما قال الرسول “ليس الإيمان بالتمني، ولا بالتحلي، ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل”…ولذا عقب بتقرير صفات المؤمنين {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}.
هكذا امتثل هذا النموذج الذي تربى بالقرآن، لأمر الله بإيمانه وتقواه، وهكذا حل هذا الإشكال الذي كان يعصف بتلك الآصرة الربانية بين المومنين، وهكذا كانت هذه النفوس المشبعة بالايمان مهيأة لتعلو على المادة كلما ذكرت بأمر ربها. وهكذا يتضح بالملموس أن العلاقات الانسانية لن تستصلح اعتمادا على التربية المادية وحدها. فالعنصر المادي وحده يجنح بسلوك الانسان إلى جنسه، فتفسد الأذواق وتجف الطباع. ويتم التشاجر بين الناس لأتفه الأغراض.
أما الجانب الروحي عندما يسمو بالايمان الصادق في الانسان، فإن هذا الانسان يُقَوِّمُ العلاقات بينه وبين الآخرين بشكل مختلف تماما عما تقتضيه النظرة المادية الضيقة في الحياة الدنيا. إن ارتباط الانسان بالسماء يفتح أمامه الآفاق واسعة إلى ما وراء هذا العالم المادي المحسوس، فيعلم أن ثمة نوعين من الجزاء على ما يأتي به من أعمال، جزاء اللحظة يفيده لمدة معينة من الحياة الأولى، وجزاء قار ثابت لا يرتبط بالزمان هو جزاء الحياة الأبدية، حياة الخلود. ولكل من هذا وذاك تأثير واضح على سلوك الانسان في علاقته مع الآخرين.
في سياق تفسير قوله تعالى {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} ما يلي(19). ولنذكر ههنا حديثا أورده الحافظ أبو يعلى … في مسنده فإنه قال : … عن أنس قال : بينما رسول الله جالس، إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه، فقال عمر : ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ فقال : “رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة تبارك وتعالى، فقال أحدهما : يا رب خذ لي مظلمتي من أخي. فقال الله تعالى: أعط أخاك مظلمته. قال: يا رب لم يبق من حسناتي شيء. قال : رب فليحمل عني من أوزاري”.
قال : ففاضت عينا رسول الله بالبكاء ثم قال : “إن ذلك ليوم عظيم يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم، فقال الله تعالى للطالب : ارفع بصرك وانظر في الجنان، فرفع رأسه فقال : يا رب أرى مدائن من فضة وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ، لأي نبي هذا؟ لأي صديق هذا؟ لأي شهيد هذا؟ قال هذا لمن أعطى ثمنه، قال رب ومن يملك ثمنه؟ قال أنت تملكه، قال ما ذا يا رب؟ قال تعفو عن أخيك، قال يا رب، فإني قد عفوت عنه، قال الله تعالى : خذ بيد أخيك فادخلا الجنة” ثم قال رسول الله : “فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، فان الله تعالى يصلح بين المومنين يوم القيامة”.
هكذا يرفع الايمان بالله قيمة الانسان، يهذب أخلاقه ويُحسِّن سلوكه، ويكبح جماح شهواته، فيكون صالحا في نفسه مصلحا لغيره ولذا عقب الحق سبحانه وتعالى بعد عرض صفات المؤمنين وسماتهم {إنما المؤمنون الذي إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون} (20) عقب سبحانه بقوله {أولئك هم المومنون حقاً.}.. وحقاً : مصدر مؤكد للجملة التي هي {أولئك المومنون} كقوله : هو عبد الله حقا أي حق ذلك حقا، وعن الحسن أنه سأله رجل أمؤمن أنت قال : الإيمان إيمانان : فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر، والجنة والنار، والبعث والحساب فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله : {إنما المؤمنون} فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا؟”.
د. حسين گنوان
……………..
1- قال تعالى : {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل} البقرة : 260.
2- قال تعالى : {والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} (النساء : 38).
3- في ظلال القرآن 1/373.
4 – البحر المحيط 5/268
5- تفسير القرآن العظيم 2/449
6- قال أبو حيان “النفل : الزيادة على الواجب وسميت الغنيمة به لأنها زيادة على القيام بحماية الحوزة” البحرالمحيط 5/267
7- العسكر : الجيش : فارسي معرب، وعسكر القوم بالمكان : تجمعوا والعسكر أيضا : الكثير من كل شيء. ويستفاد من السياق هنا أنه يعني الغنائم التي يتخلى عنها العسكر المهزومون والله أعلم.
8- أحدقت : أحاطت به
9- الغرة بالكسر : الغفلة، ويعني هذا أنهم أحاطوا برسول الله حتى لا يتسلل إليه أحد الأعداء على غفلة فيؤذيه
10- فاء : رجع وفي التنزيل العزيز {حتى تفيء إلى أمر الله} أي حتى ترجع إلى الحق، وهي هنا تعني أن الناس رجع بعضهم إلى بعض بعدما كانوا متفرقين في القتال.
11- حويناها : جمعناها
12- البحرالمحيط لأبي حيان 5/269
13- تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/451
14- البحر المحيط لأبي حيان 5/15
15- السيد قطب في ظلال القرآن 3/1473
16- البحر المحيط 5/270
17- السيد قطب في ظلال القرآن 3/1474
18- البحر المحيط 5/270
19- تفسير القرآن العظيم 2/451
20- البحر المحيط لأبي حيان 5/271