الأنظمة الاستكبارية الغاصبة تشرع الظلم وتحميه، وتقنن الاستبداد وتضفي عليه حلة “الشرعية” زورا وبهتانا، وتعقل حرية الشعوب وتدوس كرامتها، وتحسب أنها تحسن صنعا، وهي لا تدري أنها تتستر بستار هش لا يقوى على المقاومة والصمود أمام الحق وأصحابه الذين وهبوا أنفسهم وقدموا مُهَجهم وأرواحهم في سبيل الحرية والكرامة..
وليس تمة شك، في أن أمريكا تتربع على عرش النظام العالمي الجديد، ـ وهو في الحقيقة نظام استدماري في ثوب جديد ـ محاولة الانفراد بزعامته. هذا النظام الذي أعلن عليه رسميا الرئيس الأسبق بوش الأب بتاريخ 14 شتنبر 1990(1) حيث صرح في خطابه أمام الكونجرس الأمريكي : “… إننا نتطلع إلى نظام عالمي جديد يصبح أكثر تحررا إزاء التهديد بالإرهاب، وأكثر مناعة في إقرار العدالة، وأكثر أمنا في السعي من أجل السلام.. إننا نتطلع إلى عالم جديد يسوده القانون بدلا من شريعة الغاب، وتعترف فيه الأمم بمسؤولياتها المشتركة في تحقيق الحرية والعدالة”.
ونتيجة ذلك، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية تناورمن أجل بسط سيطرتها على العالم.. وكانت البداية بخلق أزمة الخليج المشؤومة التي انتهت باحتلال العراق وتقطيع أوصاله، فجعلت منه مسرحا دمويا مفجعا بدعوى تحرير العراق من الإرهاب وإحلال النظام الديمقراطي وفق التصور الأمريكي. إذ أن تهمتي الإرهاب وانتهاك حقوق الا نسان تعتبران سلاحا فعالا تستخدمه أمريكا في معاملتها مع الدول المغضوب عليها، والأنظمة المناهضة لسياستها الإمبريالية.
وقد أبانت الولايات المتحدة الأمريكية بخبث زَيْفَ ادعاءاتها حول الأمن والتحرر، وسيادة القانون محل شريعة الغاب، فالجرائم البشعة التي يمارسها جنود الاحتلال ضد الشعب العراقي أظهرت المستوى الذي وصلت إليه الحضارة الغربية اللاأخلاقية.. وهو ما ينذر بانهيارها، لأن الإجرام والفسوق والفساد.. دليل على الانحراف الشائن المتأصل في نفوس أعداء الله والإنسانية.
وقد أخبرنا القرآن الكريم عن مصير مثل هؤلاء المفسدين المنحرفين عن الفطرة الإنسانية. حيث يصور ذلك في مشهد رائع كلما اجتمعت هذه النقائص في أمة من الأمم. يقول عز وجل عن قوم لوط : {فلما جاء أمرنا جعلنا عَاِلَيها سافلَها، وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد” (هود، 82-83). ولا شك أن انهيار هذه الحضارة الغابرة في التاريخ كان نتيجة الفساد الأخلاقي الذي تفشى في مجتمعنا. قال تبارك وتعالى : { ولوطا آتيناه حكما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث، إنهم كانوا قوْمَ سوء فاسقين} (الأنبياء : 74).
وهكذا، هلك قوم لوط، وبادت دولتهم وذهبت في لجج التاريخ لتكون عبرة لمن يعتبر.
إن الأمن والتحرر بالمفهوم الاستكباري لا يتحقق إلا بالخضوع والانقياد للمستكبر، وعلى الشعوب المستعمَرة أن تكمم أفواهها وتصم آذانها وتغض أبصارها إذا أرادت أن تعيش في حرية وأمن وسلام!!.
ولعل الشاعر العراقي معروف الرصافي رحمه الله ( 1875- 1945) تحسس آلام الحرية إبان العصر الاستعماري القديم، فعبر عن معاناة الأمة العربية والإسلامية من ويلات هذا الاستعمار في قصيدته الرائعة المفعمة بالسخرية : “الحرية في سياسة المستعمرين”، وهي تنطبق على الواقع الحالي الذي تعيشه أمتنا. يقول الرصافي :
يـا قـومُ لا تتكلمـوا إن الكـلامَ محَـرّمُ !
ناموا ولا تستيقظـوا مـا فـاز إلا النـوّم !
وتأخروا عن كل ما يقضي بـأن تتقدمـوا
ودعوا التفهم جانبًا فالخيـرُ أن لا تفهمـوا
وتثّبتوا فـي جهلكـم فالشـر أن تتعلمـوا
أما السياسة فاتركـوا أبـدًا وإلا تندمـوا
ان السياسة سرها لـو تعلمـون مُطَلسـم
واذا أفضتم في المباح من الحديث فجَمْجموا
والعدلَ لا تتوسمـوا والظلـمَ لا تتجهمـوا
من شاء منكم أن يعيش اليوم وهو مكـرّم
فليُمْسِ لا سمعٌ ولا بصـرٌ لديـه ولا فـم
بقلم: إدريس كركين
——
(1) ستيفانوا سلفستري : النظام العالمي الجديد… أفلح إن صدق. ترجمة شوقي جلال، مجلة الثقافة العالمية عدد 45 ص 151.