لقد أوجَبَ الله على نفسه نصرة المؤمنين إن هم نصروه حقا وصدقا، فقال عز من قائل : {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتَ أقْدَامَكُمْ} والمتأمل في آي القرآن الكريم يجدها تزخر بوعود الله تعالى التي ألْزَمَ بها ذاته العلية للمسلمين بتحقيق النصر على كلِّ أعداء الله وأعداء المسلمين بشرط واحد كبير عريض هو : أن يفيَ السلمون بالأوامر والمتطلبات التي كلفهم أن يأتوا بها على أحسن الوجوه المرضية لله تعالى.
من تلك العهود : {ونُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ على الذِين استُضْعِفُوا في الآرْضِ ونَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ ونُمَكِّنَ لَهُمْ في الآرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ ماَ كَانوا يَحْذَرُونَ}(سورة القصص)
وقال تعالى : {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِِمِينَ ولَنُسْكِنَّنَّكُمُ الارْضَ منْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامي وخَافَ وَعيِدِ}(سوة ابراهيم).
والذي يحدث أن كثيرا من المسلمين اليوم يقرأ ون هذه الآيات وأمثالها، وينظرون إلى الواقع المر فيتساءلون: لماذا نجد المسلمين في هذا لعصر غيرَ منصورين ـ كما وعد الله تعالى ـ؟! ولماذا الظالمون يسْرحون ويمرحون يستلِبُون الحقوق، ويدمِّرون ويقتِّلون ويُعَذِّبون ويشردون بدون حسيب ولا رقيب، وبدون رادع أو زاجر؟!.
ألسْنَا مسلمين؟! أليست مساجدُنا عامرة بالمصلين؟! ألسنا نستقبل شهر رمضان بالصيام والقيام، ألسنا ننتصر لدين الله تعالى، فأين نَصْرُهُ لنا؟!.
إن هذه التساؤلات كلَّها من أقبح سوء الأدب مع الله تعالى، ذلك أنها نابعة من سوء الفهم لمقدار الله تعالى، الذي لا يُحَدُّ ولا يُوصَفُ علوًا وسناءً ورفعةً، ولمقدارِ الإنسان الذي لا يحَدُّ ولا يوصف هبوطا وسُفْلا وعجزا وضُعفا.
فالإنسان المتسائلُ هذا التساؤلَ ينظُر إلى مظاهِرِ الشعائر المقامة من صلاة وصيام وقيام وحَجٍّ ومصافحةٍ وسَلاَمٍ ومعانقة بين الناس في المساجد والطرقات، وأحذية وجلابيب بيضاء وسلهاماتٍ وطرابيشَ مختلفة الألوان، ونساء متحجبات يملأن المساجد والمنتديات، وأَعْيُنٍ كحيلاتٍ، وأسنان صقيلاتٍ بالسواك وعود الأراكِ… إلى غير ذلك من المظاهر التي تسر القلوب والأعين وتشرح النفوس والصدور، ولكنها لا َتَخْدَعُ اللَّهَ أَبَداً.
فماذا تُفيد هذه المظاهر إذا كانت الأُسَرُ غارقة في ليالي الأهواء والشهوات؟ وماذا تفيد إذا كانت الأفكار غارقة في الحداثة الكافرة بالله تعالى، ومُقتنعةً بأن لله تعالى المسجدَ وشهرَ الصوم، وموسم الحج فقط، ولا شأن له سبحانه وتعالى بالتدخُّل في القانون والسياسة والشارع والمحكمة والأمن والعسكر والبيع والشراء، والاقتصاد، والسوق، والفلاحة، والصناعة، والمدرسة، والإدارة، والوزارة، والملعب، والمسبح إلى غير ذلك من مجالات الحياة.
إن المظاهر الدينية الجميلة إذا لم تصحبْها سرائرُ نظيفة، وعَزْماتٌ صادقة على إعلاء كلمة الله تعالى في السر والعلن، تكون مجرد قشرة رقيقة وضاءةٍ تُغَطِّي واقعا مُظْلِمًا مخيفاً نسألُ الله السلامة من عواقبه.
ذكر أحَدُ الجنود الذين ابتُلُوا بهزيمة 1967 أنه كان راجعا هو وزملاؤه بعد الهزيمة إلى ثكنته فحانت الصلاة، فاختاروا مكانا مناسبا، ووقفوا يُصَلُّون. وفي تلك الأثناء مَرَّ بهم خبراء من العسكريين ا لأجانب، فوقفوا ينظرون إليهم، ولما سلَّموا، قالوا لهم : إن الله لم ينصركم في الحرب فلماذا تُصَلُّون له؟ فلم يدْرُوا بمَ يُجيبون؟.
فلما سألوا أحد العلماء الربانيين قال لهم : كان عليكم أن تقولوا :
“إننا نُصَلِّي شُكْرا للَّهِ أَنَّهُ لَمْ يُعَاقِبْنَا عَلَى آثَامِنَا وإِعْرَاضِنَا عن أَوَامِرِهِ، وانْغِمَاسِناَ في المنكراتِ الكثيرةِ التي تَفُورُ بها مُعَسْكَرَاتُنَا بخسْفٍ أو محقٍ أو زِلْزَالٍ أو إسقاطِ حجارةٍ علينا من السماء إِذْ نَحْنُ نستحق أكثرَ من هذا الذي أَصَابَنَا”.
فهؤلاء الخبراء ليسوا جاهلين بحق ربهم عليهم فقط؟ بل هم جاهلون بقدر الله تعالى.
فهم يفهَمُون العلاقة بين الانسان وربه كالعلاقة بين الإنسان والإنسان. أي أن الإنسان إذا أدَّى لك خِدْمَةً فعليك أن تأجُرَه عليها، كذلك إذا أدى المسلم الصلاة والصيام والحج فيجب على الله عز وجل أن يأجُرَهُ على ذلك على حَسَب ما يُريده ذلك الإنسان الجاهل بقدر الله تعالى، وقدْر نعمة الله تعالى على ذلك الإنسان!!.
هذا منطق تجاريٌّ لا يَرْفَعُ من شأن صاحبه، بَلْ سَيُرْديه ويُهلكه إذا لم يصحِّحْ إيمانه وفهمَهُ للدِّين، ولرَبِّ الدين. قال تعالى : {يَمُنُّونَ عَليْكَ أنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَتَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَل اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ للإيمان إِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ}(سورة الحجرات)
فكيف كان المسلمون الذين استحقوا نصر الله تعالى ببدر وغيرها؟!.
هؤلاء قال الله تعالى لهم {لَتُبْلَوُنَّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمعُنَّ من الذين أوتوا الكتابَ من قبلكم ومن الذين أشْرَكُوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور}(سورة آل عمران) فصبروا للأذى، وأنفقوا في سبيل الدين، وعزة الإسلام الغاليَ والنفيس، وأَمَرهم بمفارقة الأهل والأوطان فخرجوا من أموالهم وأهليهم وأوطانهم راضين محتسبين لا يريدون إلا نصرة الله ورسوله.
أما الأنصار فبايعوا الرسول على السمْع والطاعة في العُسْر واليُسْر والمنشَط والمكْرَهِ، وأَنْ يقولوا الحق أينما كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، في مقابل شيء واحد هو رضوان الله عز وجل والجنة.
فهل الشعوب الإسلامية اليوم بجميع فئاتها وصلت إلى درجة الصدق التي شهد الله تعالى بها للأولين حين قال : {للفقراء المهاجرين الذين أُخْرجُوا من ديارهمْ وأموالِهِمْ يبتغون فضلاً من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون}(الحشر).
إن انتصار المسلمين ببدر -مثلا- ليس انتصارا عفْويًّا، جاء صُدْفة، ولكنه كان انتصارًا توفرت شروطه بالتمام والكمال.
فمن حيث توفُّر البنية التحتية أو القاعدة الإيمانية نجد : أن المؤمنين وفَّوْا بما أمرهم الله تعالى به.
قال لهم : أحبُّوا الله تعالى ودينه أكثر من حُبِّ الزوجة والأولاد والأموال والدُّور فآثروا الله على كل محبوب.
وقال لهم : اثبتوا على الدين فضُربوا وحُرِّقُوا وجُوِّعوا وقُتِّلوا فما تزحزحوا عن دينهم.
وقال لهم : اعتزوا بدينكم ولا تعتزوا بنسب أو قبيلة أو عصبية، فقالوا “ربنا الله”.
وقال لهم : كفوا أيديكم ولا تقابلوا العدوان بالعدوان فكَفُّوا أيديَّهُم.
وقال لهم : لا علاقة بين الابن المسلم والأب الكافر، والأخ المسلم والأخ الكافر، فطلَّقُوا تلك العلاقات وربطوا علاقة جديدة على أساس الروابط الإيمانية فقط؟
ومن حيث التلاحُم بين القيادة والقاعدة نجد : أن قائدهم وهو رسول الله كان أحَبَّ إليهم من أزواجهم وأولادهم وأنفسهم.
ومن حيث التنظيم الإداري للمجتمع المسلم والدولة الإسلامية، نجد :
أن رسول الله بمجرَّد وُصوله إلى دار الهجرة بدأ يُعِدُّ العُدة لإعلان قيام الدولة الإسلامية ككيان سياسي بين الكيانات السياسية في العالم، وكسلطة مهيمنة وحاكمة على جميع من يستظلون بها.
وقد بدأ بناء الدولة بالأمور الضرورية التالية :
1- بناء المسجد باعتباره المقر الرسمي للدولة، تؤدَّى فيه العبادات وتصدُر منه القوانين، وفيه تُناقش الأمور، ومنه تذاع البلاغات وفيه يُفصل بين الخصومات.
2- تسوية الأوضاع الداخلية لإيجاد وتوفير الأمن والاستقرار في الداخل، فلاتنازع ولا تحارب بين الأوس والخزرج، أو بين المهاجرين والأنصار، أو بين المسلمين والمشركين.
3- التغلب على الأوضاع الاقتصادية الصعبة بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
4- إبرام معاهدة المواطنة والتعايش بين المسلمين واليهود حتى تُضمن حرية التعبد والتكسب للجميع.
5- عدم التراخي في الهجرة للوطن الجديد لإيجاد التجمع الإيماني المتماسك في وجه التجمعات المعادية. {والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يُهاجُروا}(سورة الأنفال).
6- التميز المعنوي ب :
أـ القبلة الجديدة :{فَوَلِّ وجهكَ شَطْرَ المسجد الحرام}(سورة البقرة)
ب ـ التميز بالأذان الفريد الذي لا يشبهه بوقٌ ولا ناقوسٌ إنه نداء يُترِجِمُ كل معاني الإسلام ومبادئه، فالله أكبر تعني : الله اكبر من كل كبير، و”أشهد أن لا إله إلا الله” تعني ألاَّ سيادة في الإسلام لغير الله أي سيادة الدولة الاسلامية مستمرة من الله تعالى، لاسيادة لشيء في الدولة فوق سيادة الله، و”محمد رسول الله” معناها : أن الله عز وجل أَسْلَمَ محمدا القيادةَ للأمة الإسلامية إلى يوم القيامة، فهو قدوتها ومرشدها وإمامُها فلا كبير ولا إمام ولا مسؤول يمكن أن يكون متبوعاً ومطاعاً إذا لم يكن تلميذاً لرسول لله .
“وحَيَّ على الصَّلاة” معناها : تعالوا إلى أهم ركن به يستمد الرضا من الله، وبه يصلح المجتمع، ثم يقال بعد ذلك : قد قامت الصلاة، أي قامت الدولة بأجلى معانيها، وأمْتَنِ أعمدتها وهي الصلاة الكفيلة بإصلاح المجتمع وتوحيد القلوب. فهل هذا الشعار يوجد في الناقوس لأصحاب النواقيس؟ أو في البوق لأصحاب الأبواق؟؟ وهل يوجد لدى أية أمة هذا الشعار الذي يختصر الإسلام كله؟! ويُنادى به خمس مرات في اليوم في مختلف بقاع العالم؟؟ إنه عزّ ما بعده من عزِّ لو تذوق حلاوته المسلمون اليوم؟ فلو تأمل المسلمون هذا الشعار الذي يتكرر على رغم العدا لعرفوا مقدار صلابة هذا الدين.
ح- ثم كان التميز المعنوي الآخر بفرض صيام شهر رمضان الذي ضل عنه المحرِّفون لدين الله تعالى.
وكان اكتمال بناء الدولة متجليا في أن الرسول جعل السيادة للدولة الإسلامية، بحيث لا يجوز للمتساكنين من غير المسلمين، أن يساعدوا غيرهم على حرب المسلمين، أو أن يعطوهم أسرار المسلمين، أو أن يتآمروا عليهم، أو يغادروا أرض الوطن بدون إذن رئيس الدولة الإسلامية. إلى غير ذلك من الأمور التي تجسِّد الشخصية المعنوية للدولة.
فماذا بقي بعد إقامة الدولة الإسلامية معنى وكيانا، شخصية وسيادة؟
بقي إظهارُ الدولة قوةً للحق ضاربة، تستمد قوتها من القوي الذي لا قوة فوقه، ومن العزيز الذي لا عزة فوقه. وهذا ما وقع ببدر كتتويج لإقامة الدولة الإسلامية النموذج الذي ينبغي أن يُحتذى.
إننا في أشد الحاجة اليوم إلى القراءة المؤدبة لآيات النَّْصر، فنلقى اللوم على أنفسنا أولا وأخيراً، لأن الله لا يخلف الميعاد، فهل تستحق دولنا الاسلامية النصر وهي لا تنصر الله تعالى؟؟ هل تستحق النصر وهي ترى شعوبا إسلامية ومدنا إسلامية تحترق بنيران الأعداء، وتتهدم فوق رؤوس النساء والأطفال والعجائز، ولا تحرك ساكنا لا بالمساعدة، ولا بالاستنكار، بل ويطيب لها النوم والأكل والشرب والضحك والسمر ومباشرة النساء بدون حياء لا من الله ولا من الناس، وبدون أدنى إحساس من وخز الضمير، في الوقت الذي بلغت فيه جراءة الأعداء ومساندوهم من المنافقين أن يعلنوا الحرب الشعواء وبكل ضراوة على المسلمين في رمضان، بل في أواخره العشر التي أحياها الخونة بالتصفيق على جثث الشهداء المتساقطة تحت سنابك الدبابات والجرافات والطائرات الحاقدة على الإسلام والمسلمين.
فاللهم لا حول ولا قوة للمسلمين إلا بك، وأنت أعلم بحالهم فانصرهم إنك على كل شيء قدير.