نصُّ القصة
{وجَاءَ مِنْ أقْصَى المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى، قالَ : يَا قَوْم اتَّبِعُوا المُرْسَلِين اتَّبِعُوا مَن لا يَسْأَلكُمْ أجْراً وهُمْ مُّهْتَدُون وَمَالِيَ لا أعْبُدُ الذِي فَطَرَنِي وإِلَيْه تُرْجَعُون آتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إْن يُرِدنِ الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لاَ تُغنِ عنِّي شَفَاعَتُهُم شَيْئاً ولاَ يُنْقِذُونِ. إِنِّيَ إذاً لَفِي ضَلاَلٍ مُبِين إِنِّيَ آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُون، قِيلَ : ادْخُلِ الجَنَّةَ. قالَ : يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُون بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّ وجَعَلَنِي مِن المُكْرَمِين. وما أنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِِه مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِن السّماء ومَا كُنَّا مُنْزِلِين إنْ كَانَتِ إلا صَيْحَةً واحدةً فَإِذَا هُم خَامِدُون يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ ما يَاتِيهِم مِن رَّسُولٍ إلاّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون}(سورة يس ن 20- 30).
مَضْمون القِصّة
أمر الله تعالى رسوله محمداً أن يَضْرب لقومه مثَلاً بأصحاب القرية، -أنطاكية أو غيرها- حَيْث أرسل الله تعالى لهم رسولين أولا، وعندما كذَّبُوهما عزَّزَهما الله تعالى برسول ثالث، ومع ذلك كذبوهم وهدَّدُوهم وتوعّدوهم بالرجم والعذاب الأليم إن لم يَنْتَهُوا عن دعْوتهم.
في الوقت الذي همَّ المسرفون المكذِّبون للرسل بتنفيذ وعيدهم بقتل الرسل جاء رجل ياسين مومنًا بدعوة الرسل، ومؤيداً لهم، وناصحاً لقومه أن يومنوا بهم، وألاَّ تمتد أيْديهم إليهم بالاعتداء، فدخل معهم في جِدال انتهى باستشهاده وإكرامه بالجنة التي أنساه نعيمُها ما فعل به قومه، فتمنى لوْ آمن قومُه مِثله فأُكْرِموا بالجّنة مِثْلَهُ، إلاَّ أن قومه كانوا من العناد وعَمَى البصيرة بحيث لمْ تؤثر فيهم لا دعوة الرسل الثلاثة، ولا دعْوة المومِن المؤيّد لهم، فتمادَوا في غيّهم وجَهْلهم وعُدوانهم على الرسل وكل من آمن بدعوتهم، فحلَّتْ بهم عقوبة الله القوي العزيز الجبار، وأصبحوا عبْرة لأولي الأبصار.
منشأ التّسْمية
لقد كان عُروة بن مسعود الثقفي أحدَ كبار أثرياء العرب وقادة الرأي فيهم، ولذلك رشَّحتْه قريش ليكونَ الموفَد الرابعَ المفاوضَ للرسول في غزوة الحُديبيّة، ولقد هاله ما رأى من التِفَاف المسلمين حول الرسول التفافاً ايمانيا لا تستطيع التُرَّهاتُ ولا الإغْراءاتُ والتهديدات الكفرية تكسيره مهما فعلتْ، فآثر أن ينْقُل هذه الصورةً الفريدةً من الجسديّة الإيمانية التي انْصَهَر في بوتقتها المجتمعُ الإسلامي قمةً وقاعدة، جسداً وروحاً، سموَّ هدفٍ وعُلُو همةٍ، حُسْن توجيه وحُسْن طاعة واستجابة، حُسْن قيادة وحُسن انقياد، فقال لقريش :
>أي قوم، فو الله لقد وفدتُ على الملوك، ووفدتُ على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيتُملِكاً قطُّ يعظِّمُه أصحابه مثل ما يعظّم أصحابُ محمد محمداً، والله ما يتَنَخَّمُ نخامةً إلاَّ وقعتْ في كفِّ رجُلٍ منهم فدَلك بها وجْهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرهُم ابتدروا أمْره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلَّم خَفَضُوا أصواتَهم عنده إجْلالاً وتوقيراً، وما يُحِدُّون النظر إليه تعظيماً. وإنَّهُ قدْ عَرضَ عليكُم خُطَّة رُشْد فاقبلوها، ولقد رأيتُ قوْماً لا يُسْلمونه لشيء أبداً، فرَوْا رأيكم، فإني لكم ناصِحٌ، وإني أخاف ألاّ تُنْصَرُوا عليه…<(1).
من خلال انبهار عروة بن مسعود بالمكانة التي رأى أن محمداً يحتلها في قلب محبيه من المو منين، ومن خلال وصفه لخطة محمد المعروضة على قريش بأنها خطة رُشد، ومن خلال خوفه على قريش من عدم الانتصار على محمد من خلال كل ذلك يتبيّن أن الرجل حصيفُ الرأي، نزيه الحُكم والتقدير، وليس من الصُّمِّ البكم الذين لايعقلون.. لهذه الأوصاف وغيرها كان أسْرع استجابة للإيمان برسول الله عندما غَزَا ثقيفا، فقد كان عُروة غائبا، وعندما رجع وجدَ أن رسول الله فكَّ الحصار عن قومه ورجع إلى المدينة بدون أن يُسلم قومه، فأسْرعَ الخُطى ليلحق برسول الله فأدركه قبل أن يصِل إلى المدينة، فأسْلَم وسأل رسول الله أن يرجعَ إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فقال له : >إنَّهُمْ قَاتِلُوك< فقال عروة -وكان فيهم مُحبّباً مُطاعاً- : يارسول الله إِني أحَبُّ إليهم من أبْكَارِهِم.
فلما عاد من الطّائف أشرف على عُلِّيَّةٍ له ودعاهم إلى الإسلام، فرمَوْه بالنَّبْل من كُلِّ جهة، فأصابه سهم فقتله، فقيل له – وهو يحْتَضِر- : ما ترى في دِينِك؟!، فقال : كَرَامةً أكْرَمَنِي اللهُ بها، وشهادةً ساقها اللَّهُ إلَيَّ، فَلَيْسَ فِيَّ إلاّ ما فِي الشُّهداء الذين قُتِلُوا مع رسول الله قبْل أن يرتحِل عنكم، فادْفنونِي معهُم، فدفنوه معهم، فقال فيه رسول الله >إنّ مثلَه فِي قَوْمِهِ كَمَثَلِ صاحِبِ يَاسِين في قَوْمِه<.
وكان قبل أن يُقتل مرّ على اللات والعزى فقال : لأُصبِّحنَّك غداً بما يَسُوؤُك، فغضبت ثقيف فقال : يا معشر ثقيف، إن اللاّت لاَلاتَ، أسْلِمُوا، وإن العُزَّى لا عُزَّى أسْْلموا تَسْلَمُوا، يا معشر الأحلاف إن العُزََّّى لا عُزَى، وإن اللاَّت لاَ لاَتَ أسْلِمُوا تَسْلَمُوا، قال ذلك ثلاث مرات، فرماه رجُل….(2).
فمثله كمثل صاحب ياسين لا من حيث الإخلاص، ولا من مراجعة قومه له مراجعةً انتهت بالشهادة، ولا من حيث سلامة الصدروحبِّ الخير حتى لقاتليه.
أضواء على الدلالات اللغوية والبلاغية :
- أقصا المدينة : أبعَدُها مكانا وسكنى، وهذا البعد يمكن أن يوحي بالرفاهية التي جعلته يسكن في ضواحي المدينة، ويمكن أن يوحي بالضعف والاستضعاف، وهو الراجح، فلو كان ذا جاهٍ وعزوة في قومه لأبرز القرآن بعض ملامح ذلك، ولكنه -فيما يظهر- من الضعفاء الذين لا يملكون إلاقوة العقيدة، وقوة الحق، وقوة الاعتماد على الله صاحب الحق، وقوة الجهر بالحق في وجه الظلّمة للحق.
- رجل : الرجل في المنهج القرآني ليس هو الذكَر البيولوجيّ فقط، وإنما هو ذكَر اتَّصف بصفات الرجولة التي منها : الشجاعة في الحق، وقوة العزيمة والمضاءِ فيه، ومنها : الصدق والوفاء وعدم الاشتغال بسفاسف الأمور. جاء في القرآن : {رجالٌ لا تُلْهِيهِم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذِكْرِ الله وإقَام الصَّلاةِ وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ…}(النور)، {منَ المومِنين رجالٌ صَدَقُوا ما عاهدوا الله عليه..}(الأحزاب)، {قال رجلان من الذِين يَخَافُون أنْعَمَ الله عليهما ادخُلُوا عليهما الباب فَإِذا دخَلْتُموه فإِنّكُمْ غَالِبُون}(المائدة).
فالرجل في القرآن -غالبا- هو رجُل الآخرة، أي يعيشُ في الدنيا للآخرة بصدق النية، وصِدق العمل، وصدق الدعوة، وصدق الجهاد، وصدق التحمل للمسؤولية.
- يسعى : السَّعْيُ يكون بمعنى العَدْوِ دون الشَّدِّ، ويكون بمعنى القَصْد وبمعنى الكَسْب والعَمَل، وهنا بمعنى التحرك السريع بقصْدٍ ونية لإنجاز عَمَلٍ سَيْطَر همُّه على القلب، قال تعالى : {وأمَّا مَنْ جَاءَك يسْعَى وهو يَخْشَى فأنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى}(عبس) وقال : {ومَن أَرَادَ الآخِرةَ وسَعَى لَهَا سَعْيَها وهُوَ مُومِنٌ فَأُولَئِكَ كَان سَعْيُهُم مَشْكُوراً}(الإسراء) فالسَّعْيُ من عناصره القصد والعزم والجدُّ في العمل والإنجاز.
- يا قوم : نداءٌ تحْبِيبيٌّ فيه معنى التواضع والتشارك الدّموي والوطني الذي يجعل صاحبه خالِصَ النصْحِ لقومه بدون ابتغاءِ مصلحةٍ خاصَّةٍ له.
- وإِليه تُرجعون : كان سياق الموافقة يقتضي أن يقول : ومَالِي لا أعْبد الذي فطرني وإليه أرْجِعُ ولكنه أراد أن يفحِمَهم بحقيقة هم عنها غافلون، هذه الحقيقة هي مآلُهُم ومرجعُهم القَهري إلى الله تعالى رَضُوا أمْ أَبَوْا، فكيف يكون قدومهم على الله؟! هذا القدومُ الذي لا خيار لهم فيه، هل فكروا فيه. أما هُوَ فراجعٌ لا محالة معَهم ومعَ كل الناس، ولكنه هو احتاط لهذا الرجوع بعبادة ربّه الذي فطره، لهذه المعاني كان أسلوب {وإِليه ترجعون} أبلغَ في التحذير والتخويف علَّ الدّعوة تنفع وتثمر.
- آمنتُ بربكم : فيها تبكيتٌ لهم، لأن الله عز وجل ربُّه وربُّهم، ولكنهم تنكروا لربّهم، وجَحَدوا نعمة الوجُود عليهم، فحُرموا من نعمة الهداية، فهُو يشهِّر بعقوقهم لمُوجدهم ورَازقهم، من خلال المقابلة بينه وبينهم، فهو آمن، وهم كفروا.
القراءة الدّعوية للقصة
إن القراءة الدّعوية لقصة صاحب ياسين تحتاج إلى وقفات عديدة تتجدَّد بتجَدُّدِ التأمل فيها وتدبُّرِها إيمانيا، من تلك الوقفات اللافتة للنظر :
1- استيعابُ الرَّجُلِ للتَّصوُّر الدّعوِيّ : المتمثِّل فيعلمه بمبتدئه، ومنتهاه، ووظيفته، عِلماً يقينيّاً تعدّى حدُودَ التنظير إلى مستوى التفاعُل العملي مع العلم اليقينيّ، وهذا العلم اليقينيُّ هو الإجابة التلقائية -بالنسبة للمومن- عن الأسئلة الثلاث التي حار فيها الفلاسفة الأقدمون، وورَّثوا شكَّهم للبائرين العصْريّين، وهي : من أين أتيْتُ؟! ولماذَا أتيْتُ؟! وإلى أيْنَ المصير؟!.
إذا كان الشاعر إليا أبو ماضي قد نظم قصيدةته : اللاَّ أدْرية” جَسَّدَ فيها حَيْرة التائهين عقليا وشعوريا وفطريا عن الطريق اللاحب، والصراط المستقيم، فإن صاحِب ياسين قد جمع ذلك التصوّر في آية واحدة قصيرة، فقال في إيجاز وإعجاز : {وَمَالِيَ لا أعْبُدُ الذِي فَطَرَنِي وإِلَيْه تُرْجَعُون}(الآية 22).
{فالذي فطرني} معناها أن متبَدَأَهُ من عند لله الذي خلقه بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً.
{ومالِيَ أعبُدُ} معناها : أن وظيفتي في الحياة هي عبادةُ الذي خلقنيوفطرني على حبه والإيمان به، وإلا لماذا جئتُ؟! هَلْ جئت عبثاً؟! هل جئتُ لآكلَ وأشربَ وأُسافد كما يفعل الحيوان؟! إن الله خلق الإنسان أرقى من الحيوان، فبماذا يكون أرقَى إذا لم تكن له رسالة؟!.
ولهذا جاء تأكيده على هذه الحقيقة في شكل استفهام إنْكَارِي لمن يتجاهل هذه الحقيقة {ومَا لِيَ لاَ أعْبُدُ؟!} أي ماذا أعْمَلُ إذا لَمْ يكن هَمِّي كُلُّه مركزاً على شكر الله تعالى وعبادته؟! أأكون عاقلاً؟! كَلاَّ، وكأنه يقول للذين يجادلونه في هذه الحقيقة : سأكون سفيهاً مثلكم!!.
وهذه الحقيقة الواضحة والبسيطة في ذات الوقت هي التي ركز عليها الله عزوجل في عدة آيات من كتابه الكريم {ومَا خَلَقْتُ الجِنّ والإِنْسَ إلاَّ لَيَعْبُدُون}(الذاريات) {أَفَحسِبْتم أنَّما خَلَقْنَاكُم عَبَثَا}(المومنون) ولكن السفهاءَ في عهد صاحب ياسين لم يفهَمُوا، وكفار قريش العُتاةُ لم يفهموا، ولا زَالَ عُتَاة العصر لم يفهموا حتى في عصر الألفية الثالثة، عصر الطفرة العلميةوالإعلامية، لكنها طفرة عمياءُ، عِلمُها جهْلٌ مركب، وإعلامُها حُمق أحمقُ، وسفهٌ أسفه.
{وإِلَيْهِ تُرْجَعُون} : معناها أنه يومن بالآخرة دار الحساب والثواب والعقاب، لَوْ فرضنا أن كُلَّ لِصٍّ يتيقَّن أن شرطياً سيُمسكُ بيده ويقدِّمُه للعدالة إذا مَدَّ يده للسرقة، فإن جريمة السرقة ستختفي من المجتمع نهائيا، فكذلك الأمر بالنسبة لمن يُومن بالآخرة، دار الوُقوف بين يدي الله تعالى لتقديم الحساب على الشاذة والفاذة بدون محامٍ ولاوسيط، ولا شفيع، ولا قدرة على الإنكار، لأن الشهود سيكونون مِن حواسِّ الإنسان وجوارحه وجلوده، فهل سينفعُ سفهاءَ صاحب ياسين إنكارُهم للآخرة، ولا مناص لهم منها؟! فهل يستوعب المومنون هذا التصور استيعاباً يدفعهم إلى العَمل الجاد لترسيخ الدّعوة الإسلامية في مجتمعات بدأ السهفاء يجرونها من القُرون لمستنقعات خَبث الإِلْحاد الماسخ للإنسانية المكرمة؟!
2- إِدْراك الرَّحمة الربّانيّة في إرْسال الرسل : ويتجلى ذلك في النداء التحبيبييِّ الذي أتْبَعهُ بالأمر لقومه باتباع الرسل {يا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِين} فهُو يعلم من الغفلة التي كان فيها، ومن الرحمة التي انتقل إليها بعد الاهتداء بدعوة الرسل، مقدارَ الفرق بين ما كان عليه، وما انتقل إليه، وهو لذلك يبذل جُهْدَ المستطاع لنقْلِ قومه الغافلين إلى مستوى الإبصار للنعَم الربانية المتجلية في اتباع هدي الرسل عليهم الصلاة والسلام، وتلك لعَمْري -صفة الرُّسل، وصفة الدّعاة السائرين على آثارهم.
3- تجرُّد الدّعوة عن المطامِع والأَغْراض : ويتمثل ذلك في تحضيضه قومَه على اتباع الرسل بدون أن يخسَرُوا شيئا مما يحرصون عليه من الأموال، فدعوة الرسل لا تكلِّف أحداً مغرماً، بل لاتدعوه إلا إلى المغنم، إن فَهِمَ الإنسان مراميها حقا {اتَّبِعُوا من لا يَسْأَلُكُم أجراً} لأن الدّعوة هي دعْوة لله، والله يكافئ عليها بما يناسبها من الإكرام والثواب،وهي دعوة للآخرة، والله قد أعدَّ للدعاة ما لا تستطيع الدنيا كلها أن تكون ثمناً مكافئاً للخلود في الجنان.
ولقد سفه نفسَه من يظنُّ أنه يستطيعُ احتواءَ الدّعوات الربانيّة وتسخيرَها لخدمةَ الأغراض الدنيوية في أي عصر من العصور، وخصوصا في عصر صناعة الأبواق المذهبيّة، والحزبيّة، والسياسية…
فهل يتعلم الدّعاة من صاحب ياسين فيتجردون التجرُّد التام لدين الله ودعوته بدون أن تَرْنُو عيُون قلوبهم إلى أي مطمع دنيوي قل أم كثر؟!
4- الإيمان عن علمٍ واقتناع لا عن تقليد واتباع : فصاحب ياسين ليس من الذين يومنون عن سطحية فكرية، أو تديُّن وراثي أو جغرافي، خالٍ من الروح، ولكن آمن عن بينة من ربه، وتعبّد عن خشيةٍ وأملٍ في رحمة ربه، ودعا عن اقتناعٍ كاملٍ بصلاحية دينربه للإنسان السوي في أهدافه وتوجُّهاته.
فلقد عرَف قدْر ربه حين اختصه بالعبادة، وعرف قدْرَ نفسه حين أَلْزمها بالعبودية لرب العباد، وعرف قدْر الدعوة الإصلاحية وقدْر ثمارها حين تحمَّل مشقة السفر البعيد في سبيلها، ومشقة المفاصلة الفكرية والشعورية والسلوكية في سبيلها.
وقدوفر له هذا العلم :
أ- الاقتناعَ التام بالهُدى الذي جاء به الرُّسُل {وهُمْ مُهْتَدُون} فكأنه يقول لقومه : ضَعُوا أيديَكُم في أيديهم، فإنهم سوف لا يقودونكم إلا إلى خيري العاجلة والآجلة، وسوف لا تندمون أبداً على وضع الثقة فيهم.
ب- القدرةَ على الحِجَاجِ والإفْحَامِ والدِّفاعِ عَن حُسْن اخْتِيارِهِ : {ومَالِيَ لا أعْبُد الذِي فَطَرنِي} فهو صَريحٌ في الجَهر باختياره صراحةً لا تلجْلُجَ فيها ولا خوف ولا اضطراب، صراحة تعطي المثل للمنجَحِرين في عصرنا مصانعة لزعماء التشويه والنفاق.
جـ- القدرة على التحدي المزلزل : {آتَّخِذُ مِنْ دُونِه آلِهَةً؟!} ماذا تريدون مني أيها السفهاء؟! هل تريدون مني أن أكون أعمى عن الحق مثلكم، فأعبد مالا يضر ولا ينفع من أصنامكم، اسمعوها صرخة مُدويّة تفلق أكبادكم، وتزلزل كيانكم {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُم} فافعَلُوا ما بدا لكم، ولن تعْدوا قدْركم، أو تتجاوزوا حَدَّكم.
د- التَّعَالي عن الأحْقاد : {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُون بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وجَعَلَنِي منَ المُكْرَمِين} لا مكان في قلب الدّاعية الرباني للتشفي والشماتة، ولكن الدّاعية الحق يذوبُ كمداً على سوء اختيار قومه للسبُل المعوجّة التي لا تقود إلا للهلاك والبوار، فرأسُ ماله وربْحُه هو في عَرْضِ الخير على الناس، وحُبِّه لهم بدون مقابل، فهو يتحمَّل الطيشَ والتّشويه والسفه والأذَى، شعاره >اللَّهُمَ اهْدِ قَوْمِ فَإِنَّهُم لاَ يَعْلَمُون<.
—
1- سيرة ابن هشام، ومحمد رسول الله لمحمد رضا ص 320، والسيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة لأبي شهبة 330/2.
2- تفسير ابن كثير 686/3، والسيرة النبوية في ضوء الكتاب والسنة لأبي شهبة 528/2.