لأجل بيان فضل العالم على الآخرين أورد من الرسول هذا القياس، إذ يقول: >فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ <(2).
نعم إن العابد الجاهل معرّض إلى الانحراف والزيغ كل حين. وهذا الانحراف نسبي حسب مرتبة العبد عند الله. منهم من يعدّ عدم مراقبته لله في آن واحد انحرافاً جاداً.. ورغم نسبية المسألة فهناك انحراف. والحال أن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء في مراقبة دائمة ومحاسبة مستمرة مع أنفسهم. فهم في توق روحي دائم، وعلى أهبة الاستعداد تجاه المهالك والمخاطر المحدقة. ومما لا شك فيه أن العالم الذي يتعبد عن معرفة وبشعور تام لكل مسألة، أفضل ممن يتعبد بلا شعور، كفضل الرسول على أدنى الصحابة الكرام. وفي الحقيقة أن هذا يعني: لا يمكن مقايستهما.
وهناك نكتة دقيقة في هذه المسألة وهي أن الإنسان الكامل الوارث للنبي لا يفلت منه نور يُفاض عليه من الفيض الأقدس. حتى كأنه مركز استقطاب كبير لابتلاع الأشعة المنبعثة من الشمس. فلا يهدر ولو ذرّة من كل فيض مقدس يرده بتجليات الأحدية وينتقل إليه بتجليات جمالية لطيفة تلاطفه بإسباغ الرحمة عليه، فتكون جميع أركان قلبه في نشاط مستديم وفعالية دائمة، ساعياً لتكون مرآة عاكسة لهذه الفيوضات.
هذا – في الوقت نفسه – تعبير عن خشوعه العظيم وتوقيره الكامل لربه الجليل، وهو عملية شحن روحي مستمر. ولهذا الشخص المشحون باستمرار له إفراغ أيضاً، وهذا الإفراغ هو نشر ما في روحه من ضياء ونور وحقائق أخرى إلى مَن حوله. وليس هناك معيار لقياس عمله هذا حسب أعماق روحيته. إذا فمهما توغل العابد في عبادته لا يبلغ عبادة عالم الذي هو الإنسان الكامل. فضلاً عن أن المرء عليه أن يعمل بما عَلِم. وإلاّ فالقرآن الكريم يهدده ويزجره بالآية الكريمة {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعلَمُونَ}(البقرة :146).
نعم إنهم يعلمون ولكن لا يعملون، فهم كالثقوب السوداء لا تعكس نوراً إلى شيء. فلا يستفاد بشيء من طاقاتهم الضوئية، أو بتعبير أصح لا يكون كالشمس تشع ضياءها إلى كل مكان، فهي موقد وهي سراج وهي حزمة ألوان تلامس أزاهيرها، تلك هي الكواكب السيارة. ولنترك محرومي الحظ الذين ضياؤهم كالثقب الأسود مظلماً قاتماً، مع ما لديهم من طاقات مدخرة. نتركهم وحالهم منتقلين إلى حديث شريف للرسول الأكرم إذ يقول: >مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ عَلِمَهُ ثُمَّ كَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ<(3).
فهذا الكلام الطيب بيّن المعنى، أي مَن تعلم شيئاً ولم يحاول نشره إلى مَن حوله، أي لم يفرغ بعد ما شُحن، ولم يصبح قدوة حسنة بأطوراه، لا يكون مرآة عاكسة للحق. فيكون جزاؤه أن يلجم بلجام من نار. ونجد في الحديث الشريف تقريعاً وتوبيخاً شديدين حيث إن اللجام لا يستعمل إلاّ للحيوانات. أي تشبيه مَن كتم علمه بالحيوانات، وهو تعبير شديد كما هو واضح.
إن ذلك الإنسان – الذي كتم الحق – لم يدرك قيمة ما أهّله الله وجعله في أحسن تقويم، وأهمل ما أودع الله في ماهيته من شعور وبيان وتفكر حتى ميّزه عن الحيوانات، بل جعله خلقاً ممتازاً مختاراً من بين المخلوقات، ولكنه لم يؤد شكر ما أودع الله فيه. أليست معاملة عادلة عدالة محضة أن ينـزع رب العالمين أفضاله عنه.. الأمر أعرضه لأنظاركم.
العلم والتبليغ وجهان لحقيقة واحدة، أما العمل فهو شرط لا ينفك عنهما. فلا يفرز هذه الثلاثة بعضها عن بعض. إن عمل المرء بما علم تعبير عن توقيره لعلمه، إذ عدم القيام بالعبودية لمن عرف ربه هو عدم توقير له وعدم اكتراث، بل بلاهة وعمى وصمم. ولاسيما من تولى عناء خدمة الإيمان وتكاسل عن العبودية فهذا أمر مخيف اكثر من مخافة العدو الخارجي. والحالة التي يتقمص بها الغربيون بعد اهتدائهم إلى الإسلام وما يتفوهون به له دلالة لهذا الحكم، إذ الكلام أو الشهادة من الخصم له دلالة خاصة.
يسأل أحدهم إنكليزيا مسلماً، لماذا لا يدخل الإنكليز إلى الإسلام أفواجاً، فهم أناس عقلاء حتى أنهم يديرون سياسة العالم؟ فلا يجيبه الإنكليزي المسلم وإنما يمسك بيد السائل ويأخذه إلى أقرب مسجد.. وضع كئيب، ليس هناك إلاّ عدد ممن يؤدون العبادة بأجسادهم.. وكان هذا جوابه. وهذا يعني: أن طور الغربي واضح تجاه النظم الدينية، أو غير الدينية، إن لم تظهر في التطبيق العملي وفي الحياة المعيشة. فمتى ما أصبحنا نقابلهم كجماعة بلغت إلى وحدة الظاهر والباطن، وتكامل فيهم العقل والروح، وغدت قلوبهم متعارفة مفتوحة للقرآن الكريم، وانسجمت أعمالهم مع فطرة الإنسان، وهمّ كل منهم متوجه إلى هداية الإنسانية.. فانهم يلجأون إلى الإسلام. وقد لجأوا إليه، وسيلجأون بإذن الله من دون أن نكلفهم به.
نعم! كيف يلتحق الغربي إلى مجتمع لا يعرف دينه، ولا يعرف ربه، ولا يفهم عن كتابه وليس له من المظاهر ما يجلبه اليه؟ فهو ينظر أول ما ينظر إلى الواقع العملي والى بناء قلب المسلم وعقله. إذ يهتم بأناس تتماوج في آهاتهم الحسرات حباً للإنسانية وإشفاقاً عليها، يقضون لياليهم بالتهجد والقيام لله، وألسنتهم رطبة بذكر الله، لا يهدرون الوقت ما استطاعوا، بل يشغل كل منهم كل آن من وقته بما يفيد وينفع.. نعم انهم يهتمون بأناس مشحونين بمثل هذه الطاقات.
فإذا ما تمكن الذين يمثلون الإسلام أن يصبحوا على هذه الشاكلة يهرع الغربيون إلى الإسلام ويدخلونه أفواجاً. ولكن لان الحالة معكوسة، تجلت النتيجة معكوسة أيضاً، فابتعدوا عنا حالياً.
وباختصار نقول: إن الإسلام نظام إلهي يربط العلم بالعمل ربطاً محكماً. ففي إحدى جانبيه الإيمان والجانب الآخر تحويل هذا الإيمان إلى عمل وفعالية. نعم، إن ذكر أعمال وعبادات الآخرين ورواية حكايات عنهم جميل من جهة لما فيها من عبر وعظات. ولكن الاكتفاء بهذا القدر فقط من دون القيام بتطبيق تلك الأعمال في الواقع يؤثر تأثيراً سلبياً في المقابل. فالإسلام ليس ذكر مناقب الأولياء أو الاستماع إليها فحسب، بل هو تحويل ما يُذكر عنهم إلى حياة معيشة. نعم، الإسلام إيمان وعمل. فالذين يتكلمون عن العمل الإسلامي من دون أن يدركوا أن الإسلام إيمان وعمل كلامهم هذر ليس إلاّ.
——-
2- الترمذى، العلم، 19
3- الترمذي، العلم، 3؛ ابوداود، العلم، 9 ؛ ابن ماجة، المقدمة، 24؛ الهيثمي، مجمع الزوائد، 1/163
عدد القراءة ???