إن القرآن الكريم سلك منهجا دقيقا في صياغة الإنسان الرسالي، هذا المنهج أسس على نظام متدرج يراعي الأولويات، ولذلك فإن أول ما نزل من القرآن فواتح سورة العلق: {إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم} فإن هذه الفواتح المباركة لَو أخذت بها الأمة فقط لوحدها لكفتها كثيرا من البلايا والرزايا.
ففي عالمنا المعاصر نلاحظ :
< إما جهلاً وجهالةً.
< وإمّا قراءة بغير اسم الله.
فالجهل والجهالة هو حال أمة إقرأ فإنها أخذت المنهج منكوسا فصارت إلى الحضيض وباتت تُعيَّر بكل قبيح، فسلط الله عليها من لا يخافه فيها ولا يرحمها، فاستُنزفت خيراتها وسُبي إنسانها وصارت بذلك تابعة في كل شيء خائفة غير مطمئنة وذلك لِما أصابها من خواء روحي ووهن حضاري.
أما القراءة بغير اسم الله فهو حال الذين هم سادة العالم اليوم لقد قرءوا ولكن بغير اسم الله، لقد تراكمت لديهم المعارف التكنولوجية وتحقق عندهم الرخاء الاقتصادي ولكن دون انضباط لخلق ولا كرامة،
فإنسانهم يصنع ما يدمر به نفسه وغيره، ويكرم ما لا ينبغي تكريمه والله سبحانه وتعالى يقول : {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}(الإسراء : 70).
فلا الأولى ولا الثانية مما ينبغي، بل لابد للقراءة من القراءة بسم الله فقط لتصلح الحياة، ولذلك جاء هذا النداء الرباني الخالد مقوِّما ومسدِّدا هذا الإنسان المعوج {إن الإنسان لظلوم كَفَّار} ليضعه على الصراط المستقيم وعلى المحجة التي لا يزيغ عنها إلا هالك.
وفي هذا الشأن تطالعنا ثلاثة أسئلة يسهل بها نفاذ هذا النداء الخالد وتُرى به ثمراته :
السؤال الأول : كيف صنع الله الإنسان -الفرد- من خلال فواتح سورة العلق؟
السؤال الثاني : كيف صنع الله الإنسان -الأسرة- من خلال فواتح سورة العلق؟
السؤال الثالث : كيف صنع الله الإنسان -الجماعة أو الأمة- من خلال فواتح سورة العلق؟
أولا: كيف صنع الله الإنسان -الفرد- من خلال فواتح سورة العلق؟
يقول الله سبحانه وتعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}.
إن الوحي الرباني نزل على الرسول الأمين فرداً أولا وقبل كل شيء، فإقرأ هي أول قطرة من قطرات الخير نزلت لتبثّ النور في أرجاء المعمور. وضابط هذه القراءة هو أن تكون باسم الله، أي كن قارئا بإذن الله وتوالت بعد ذلك صفات هذا الرب العظيم من فعل الخلْق من علق وفي ذلك إعجاز بليغ لذوي الألباب، ومن تكريم لهذا الإنسان من الأكرم سبحانه وتعالى الذي علَّم بالقلم علَّم الإنسان ما لَم يعلَم -ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء-.
فمنهج إقرأ كان حيا معيشا عند الصحابة الكرام فرادى كما دلت على ذلك الكثير من أحاديثه قل لي قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك قال: >قل آمنت بالله ثم استقم< أو كما قال .
وكذلك : دُلني على أبواب الخير.
وفي حديث رواه البخاري قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ] >تفقهوا قبل أن تسودوا< أي قبل أن تصيروا سادة فتمنعكم الأنفة عن الأخذ عمن هو دونكم فتبقوا جهالا، لأن الرئيس قد يمنعه الكبر والاحتشام من أن يجلس مجلس المتعلمين، وهذه حكمة جليلة تدعو إلى إرشاد الآباء إلى تعليم أبنائهم في حالة الصغر. ذلك لأن من سوده الناس يستحيي أن يقعد مقعد المتعلمين خوفا من رياسته قال يحي بن معين : من عاجل الرياسة فاته علمٌ كثير، وقيل: إن السيادة تقتل بالعلم وكلما زاد العلم زادت السيادة فقصَدَ عمر بذلك الحث على الزيادة من العلم قبل السيادة لتعظيم السيادة به، وقد تعلم أصحاب رسول الله في كبر سنهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ضمني رسول الله وقال: >اللهم علمه الكتاب<؛ وقد أجاب سبحانه دعاءه فكان عالما حَبْر الأمة، بحر العِلم، رئيس المفسرين، ترجمان القرآن قال ابن بطال: كان ابن عباس من الأحبار الراسخين في علم القرآن والسنة أُجيبت فيه الدعوة، وفي الحديث فـوائـد منها :
الحث على تعليم القرآن -الدعوة إلى الله – الميل إلى الرقي والسعة والوظائف العالية بالعلم.
ثانيا : كيف صنع الله الإنسان -الأسرة- أو تعليم الأقربين؟
فالشيء الطبيعي أن يكون تعليم القراءة للأقربين أولا وكان هذا هو منهجه انطلاقا من قول الله سبحانه وتعالى {وأنذر عشيرتك الأقربين} فلقد كان أول الخلق إسلاما زوج النبي خديجة بنت خويلد ومولاه زيد بن حارثة وابن عمه علي بن أبي طالب.
وهذه سنة إلهية يحدثنا رسول الله عن أسبابها في صدد قصة لوط عليه السلام فقال : >رحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد< يعني الله عز وجل. فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه، فتعليم العشيرة ودعوتها واجب سواء آمنت أم لم تؤمن، فإن حمايتها لابنها خط أصيل في تاريخ الدعوات.
ثالثا : كيف صنع الله الإنسان -الجماعة أو الأمة- من خلال فواتح سورة العلق؟
كان هذا هو ديدانه حيث إن الجماعة المؤمنة الأولى قامت على العلم وبه سادت مستهدية في ذلك بهدي القرآن وهدي النبي ففي الحديث الصحيح الوارد في الحث على الفقه والتعليم يقول المصطفى : >من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما العلم بالتعلم< وقال ابن عباس رضي الله عنهما في حق قول الله سبحانه وتعـالى: {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} معناه كونوا فقهاء حلماء ويقال الرباني : الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كبارهم. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما في باب “يتعهد أصحابه بالموعظة والعلم كي لا ينفروا”كان يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا فكان يختار أحسن الأوقات للتعليم والإرشاد ويتفقد أحوال الجماعة المؤمنة ولا يكثر عليها، وقال الحطابي معنى يتعهدنا: أي يراعي الأوقات في عظتنا ويتحرى منها ما يكون مظنة للقبول فأنعِم به ، فلقد اشتغل بمهنة التعليم طول حياته فعلم أن قوى التلاميذ تحتاج إلى مران وحكمة واختيار وقت، وحصص محدودة معينة قدر الطاقة، وفي أصناف المتعلمين جاء عن أبي موسى عن النبي قال : >مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضا فكان منها نقيه قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ومن لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به<.
ما السبيل إلى إيجاد الإنسان القارئ؟
إن أول سبيل أن نعرف ما نطلب، إننا نطلب عظيما عليه قام الدين وبه وصف رب العالمين العالم فمن عرف ما طلب هان عليه ما وجد.
فذلك يتطلب مجاهدة وعزما وصبرا وتدرجا.
فالمجاهدة تكون فردية بتخصيص أوقات من يومنا للقراءة وأحسن ما يقرأ الوحي قرآنا وسنة وما دار في فلكهما مما يسهل فهمهما والانتفاع بهما.
وكذلك المجاهدة الجماعية تكون باختيار الأصحاب والأصدقاء والرفقاء الذين يتعاونون معك على القراءة وطلب العلم النافع.
وفي هذا الباب يلزم أن يكون المسلم مجداً مجتهداً في الثغر الذي عليه فليحرص أحدكم على أن لا يؤتى من ثغره، فالأمة في حاجة إلى الأقوياء الأمناء في كل قطاع لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فحق لنا ونحن أتباع سيد الخلق أجمعين أن تكون لنا الريادة في كل شيء نافع كما كانت لأسلافنا.
فاللهم قيض لنا من إذا نسينا ذكرنا، وإذا ذكرنا أعاننا وباعد عنا من {يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وعن الآخرة هم غافلون}.