البلاغة عند النورسي ليست صنعة اللفظ، بل هي نظم المعاني في المجرى الطبيعي للفكر. مع هذا، فلا مانع من تزيين اللفظ وتحسينه حسب اقتضاء المعنى وحاجته، ولا من تلميع الأسلوب حسب تقبل المقصود، ولا من تلطيف التشبيه بشرط مراعاة التعلق بالمطلوب والمقصود، ولا من تنشيط الخيال بشرط الامتناع عن ثلم الحقيقة والثقل عليها، ولا من تعظيم الصورة بقدر إذن المعنى للتعظيم.3
فالأصل في البلاغة عنده هو نظم المعاني وشرفها في مجرى الفكر السيال. وتأتي صناعة الكلام واللفظ تابعة للمعنى ومقيدة به.فهو غير مهتم بما ذهب إليه أصحاب الأقوال في البلاغة (كالجرجاني والآمدي) بزيادة عناصر متكافئة في الثقل والأهمية مع شرف المعنى وصحته، وهي جزالة اللفظ واستقامته والإصابة في الوصف والمقاربة في التشبيه. ويقترب بذلك من تعريف “الكرماني” العام وغير المحدد للبلاغة بأنه: إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ.غير أنه يشدد على ارتباط حسن الصورة في اللفظ بالمعاني والمقاصد ، بل ردعها بها. ولئن نحى كثير من أهل العلوم اللسانية إلى تقسيمات ثلاثية لطبقات الكلام من جهة البلاغة حسب معايير مختلفة، مثل الرصانة والفصاحة والإرسال، أو وضعوا عناصر للذوق البلاغي مثل اللفظ والمعنى والتناسب والنظم والفتق في الصورة أو الاقتباس وغيرها، فإن النورسي يركز على شرف المعنى والنظم، ويرجع علو الكلام وجماله معاً إلى عناصر أربعة هي “المتكِلمُ، والمخاطَبُ، والمقصد، والمقام، لا المقام كما ضل فيه الأدباء”(4). ولا يعتمد على النص وحده وقوته وجزالته في الحكم على البلاغة في النص. ولما كان الكلام وجماله وقوته حسب المقصود أيضاً، فينبغي أن يكتسي حلّة ويلبس لباساً يناسب هذا النص فيجعل أساليب الكلام ثلاثة حسب المقصود والمخاطب، ولا يزنه من خلال النص نفسه حصراً، هي الأسلوب المجرد كالأسلوب السلس للشريف الجرجاني ونصير الدين الطوسي، والأسلوب المزّين كالأسلوب الباهر الساطع لعبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، والأسلوب العالي كبعض الكلام المهيب للسكاكي والزمخشري وابن سينا أو بعض الفقرات العربية لكتاب صيقل الإسلام. ويتابع النورسي فيقول أن الأليق لتصوير الإلهيات وتصوير الأصول هو الأسلوب العالي، وللخطاب والإقناع هو الأسلوب المزّين، وللمعاملات والمحاورات والعلوم الآلية هو الأسلوب المجرد(5).
وإن قراءه دقيقة للرسائل العربية خاصة، تدلنا على أن النورسي التزم بالمعنى والمقصود، بل أزاح بثقل اللفظ وضحى به متى ما وقف عثرة أمام بيان المقصود والمعنى، واستعان باللفظ التركي في الجملة العربية مع بيان أقرب معنى إليه باللفظ العربي، حينما عجز اللفظ عن التعبير الدقيق في لمراده. مثل قوله “تمل جرك” الأساس فاسد. كذلك يزيح ثقل القوافي والأوزان متى ما عرقلت إيصال المعاني أو حجزت عن بلوغ المقصود. ويتوافق هذا مع منظوره إلى أن اللفظ لباسٌ للكلام وليس جسداً له، والمعنى بدنٌ وليس روحاً له. أما حياة الكلام فهو من نية المتكلم وحسه، وروح الكلام وحياته هو المعنى المنفوخ فيه، ينفخه المتكلم ليحييه. فلا بأس إذن أن يمزق اللباس أو يبدله متى ما ضاق عن الجسد، ما دام البدن والجسد هو المعنى. ولكن المعنى نفسه جسد لا روح فيه إلا إذا أحياه المتكلم بحسه ونيته ومقصده، فبذلك تدب الحياة في الكلام. وهل يتصور حياة بلا روح؟ فالروح الذي في الحياة هو نفخة من المتكلم. فالقوة في حيوية الكلام، وعلو روح الحياة فيه، يتناسب مع الإرادة والقدرة في الأمر والنهي مثلا(6). وللنورسي نظم لمعانٍ في التوحيد بلغة تركية عالية ورصينة للغاية هو كالشعر ولكنه يتجاوز فيه على قيد التفاعيل متى ما انحصر، ويكسر فيه موروث وحدة المعنى واكتماله وتمامه في البيت الواحد. ويصرح بكسره لهذين القيدين حتى يحرر شرف المعنى وعلوه. كذلك يفعل في مناجاته الطويلة التي سنحت له باللغة العربية(7) ، إذ يقول عنها “.. فظهرت هكذا، في بعضها رقص الجذبة بنوع وزن يشبه الشعر وليس بشعر، بل قافية ذكر، في جذبة فكر..”
ولقد وظف النورسي خطابا أدبياً رفيعاً في إيصال الحقائق الإيمانية إلى القلوب والعقول من خلال رسائل النور، سواء في الرسائل العربية أو التركية. وهو حين يجنح إلى الخطاب الأدبي في أدق المسائل العلمية، لا يفرط بالحقيقة المجردة، ولا يعومها، ولا يُطوّف حولها الأوهام والظنون التي تصعفها، ولا يغرقها في الخيال والصور المتوهمة. وفي الوقت نفسه ينأى بكلامه عن التكرار والإطناب الممل. ولكن لتكرار بعض المعاني في الرسائل مقاصد لا تخفى على الباحث من جهة ، وفيه طلب لإسناد المعاني من جهة أخرى. فهو يلقى لمحات سريعة ترد على خاطره، ينقلها إلى القارئ وكأنه يطبع صوراً فوطوغرافية في نفسه، ويحسسه بضرورة مراجعتها والعودة إليها ليتلقى معانيها. تأمل في الصور والتداعيات الأدبية التي يرسمها في النفس والعقل بعد ذكر حقيقة عن الرزق: “أنه قد روي أن الإنسان إذا تحرك سكن رزقه، وإذا سكن تحرك رزقه. الحق أنه من لمعات حقيقة واسعة. فانظر إلى الأشجار لما سكنت متوكلةً، تحركت إليها أرزاقها، وإلى الحيوانات لما تحركت حريصاتٍ، سكنت عنها أرزاقها ثابتةً في مقامها، نابتةً على عروقها، تدعو بالوانها وروائحها إلى أنفسها من جاع واحتاج من الحيوانات المتحركة باهوائها، والدائرة بهَوَساتها”(8). وما أسرعه في التنقل من فكر غائر إلى آخر حين يدعو شكر المنعم المنّان، إلى إدراك مسبب الأسباب وترك التمسك بظاهر الأسباب:” أن الكلب بسبب مرض الحرص أهتم بالسبب الظاهري بدرجة أغفلته عن المنعم الحقيقي، فتوهم الواسطة مؤثرة، فذاق جزاء غفلته بالتنجيس، فَتَطهّر”(9). فكأن خيال القارئ في استيعاب الصور يسابق عقله في إدراك غور المعاني! وحين يُهَوّن من فهم الغرب لحق الحياة ويطلق هذا الحق في آفاق الإيمان الرحيبة التي تنجي كل الموجودات من العدم والفناء، يصور فاكهة الرمان فيقول في كلام بديع من الطباق والجناس وتداعيات لطيفة: ” إنما هي (أي الرمانة) كلمة أفادت معناها للمكوّن سبحانه، وللكون، فَوَفّت، فتوفت، فدفنت من فيك فيك!”(10). فما أروع حق الحياة حين تنطوي في معناه رمانة توفي بكلمة ذات معنى للخالق والمخلوقات جمعاً، وحين تموت عبوراً من فم إنسان وتدفن فيه، فهي تحيا فيه، ولا تموت!
هكذا النورسي يحيي جماد الكلمات المعبرة عن حقائق عظيمة بخطاب أدبي تمزج هذه المعاني السامقة في العقل والمشاعر معاً. فتظل متحركة في كوامن الإنسان وإن اختفت خلف ستار. ولا يختلف أسلوب النورسي البليغ في رسائله العربية عن التركية.إلا إنني أزعم أن كتاباته التركية أجزل وأسلس وأطنب، وأسهب شرحاً للمواضيع وتفصيلا في شؤون الدعوة والتبليغ. ذلك، أن العربية عند النورسي لغة علم، والتركية سليقة. ثم أن التركية لسان الحلقات الأولى للمخاطبين، وهم مادة الدعوة. وللقارئ أن يتصور بلاغة الخطاب في التركية قياساً على الرسائل العربية. أما من حيث الفكر والمقاصد، فإن كانت الرسائل العربية بذرة، فالتركية نباتها.
إن العناصر الفنية في الخطاب الأدبي المبثوث في ثنايا الأسطر وطيات الصفحات متوافرة وثرة. فلا تخلو كلمات الرسائل من عاطفة جياشة، ومعايشة للواقع الفكري، والفكر الجامع. ولا يعدو الأدب بقوالبه وصوره المتنوعة أن يكون فكراً وعاطفة وتجربة، معبراً عنها بأسلوب فصيح يزينه فنون البيان والبلاغة، والرسائل بهذا المعنى – كلها أو جلها – خطاب أدبي من نوع خاص. وقد سبق أن قلنا أن للنورسي مذهبا في تطويع اللفظ والقالب يجعلهما خادمين للفكر. وقلنا أن له زيادة في تحديد عناصر البلاغة وعلو الكلام والأدب. إلا أنه ليس مبتدعاً في التبرم من ضيق اللفظ والقالب حين يقصران عن المعاني والمقاصد، ولكنه ليس داعية إلى هدمهما. فإنه لم يفرط بالفصاحة، ولم يهبط بالبلاغة، لا في رسائله التركية ولا العربية. وقد ذهب هذا المذهب أهل هذه الصنعة قديما وحديثا، بلا جرح للتراث. ألا ترى الأجداد ضاق عليهم استعصاء جمع المصدر في الجمال والإحسان والكمال فقالوا الجمالات، والإحسانات، والكمالات؟ وترى جمعاً كثيراً من الشعراء مثل عارف نهاد آسيا الذي يقول أن اللفظ خادم للفن، لا سيد عليه. وسلطان الشعراء المعاصرين الأتراك نجيب فاضل يقول: أن الأديب -والفنان- لا يَضيقُ بالقيود والقوالب الفنية، ولكن الأدب والفن لا يحصر بالقوالب. ويعني أن الأدب والفن إذا سمق وسمى، فسوف يكسر قيوداً وقوالب معهودة غايتها في الأصل أن تحمي الأدب من السقوط، ليستقر في قوالب متناسبة مع الذرى العالية الجديدة التي يحلق فوقها. أما السمو فهو بالحق والحقيقة، وهو في النهاية معرفة الله. فالفن الضال ليس فنا أصلاً عنده، والفن الباحث عن الحقيقة هو فن أصيل بقدر اقترابه منها. والفن المسلم هو الأصيل والباقي وحده. لذلك عندما استعصت الأوزان التركية الموروثة على بعض مقاصده، ابتكر أوزانا شعرية جديدة تناسب في موسيقاها وإيقاعها مقاصده ومعانيه. وفي هذا الذهاب ربط متين بين الفكر والأدب. ذلك أن الفكر منظم لسوانح العقل، وقالب يهذب الشاذ ويجذب الشارد. وهو كالخيط للعقد، إذا انقطع تناثرت شظايا العقل وتفرقت شذر مذر. وحين يمتزج الفكر بالشعور والعاطفة ويتعايش في النفس البشرية وجدانيا وواقعيا، وتتزين الفصاحة بجمال اللفظ وبدائعه، يولد النص الأدبي سواء أكان نظما أم نثرا.
——–
3- انظر صيقل الإسلام ص 97.
4- المثنوي العربي النوري، قطرة ، ص 156 وإيضاحه أن المطّلع على أبيات أبي الطيب المتنبي مجرداً عن المتكلم والمخاطَب والمقصد والمقام يسلب النص من عناصر قوته البلاغية عند النورسي. فحين تسمع :
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي واسمعت كلماتي من به صمم
أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم
يعطيك النص احساساً شديدا بقوة الإفادة وجماله بالعناصر التي هي فيه. ولكن البيتين لو سنحتا لشاعر لا تعرف قدرته، لضيع شيئاً من قوته لمجهولية حال القائل، أو عُلمت أنهما قيلا في ملأ من الجهال لا علم لهم بالشعر، لهان شيئا عندك، أو في ملأ من أهل التذوق بالأدب وفنونه، لراق عندك. أو أنهما نُظِما عرضاً لهان شيئا ، أو نظما في معرض التحدي لعَظُم أمرهما. فهكذا البلاغة عند النورسي.
5- أنظر صيقل الإسلام، ص 113 و ص 114 ونرى أن النورسي لزم هذه الأساليب الثلاثة، فنلاحظ ثلاث طبقات في خطابه سواء في الرسائل التركية أو العربية وأمثلتها (بتوصيف النورسي)
< الأسلوب العالي: وأكثرها في الإلهيات والحقائق الكبرى والكشوفات وفي بعض المدافعات في المحاكم كما في إشارات الإعجاز والمثنوي العربي النوري ورسالة الطبيعة والحشر والمعجزات الأحمدية .
< الأسلوب المزين: والمقصود في أكثرها شرح تلك المعاني العالية للقارئ وإيضاحها. كما في اللمعات وفي كثير من الكلمات.
< الأسلوب المجرد السلس: وأكثرها في رسائله ونصائحه إلى طلابه وفي المعاملات اليومية في السجن ومخاطباته للمسؤولين مع الحفاظ على الفصاحة فيها. ومثالها في الملاحق والشعاعات.
وعلى هذا، تكاد الرسائل التي كتبها باللغة العربية أن تكون جوهر فكر النورسي، والرسائل التركية تفصيل لها وزيادات عليها في معانيها وأحوالها وفي شؤون التبليغ وأطواره وأحوال العاملين في خدمة القرآن.
6- أنظر: المثنوي العربي النوري، قطرة ، ص 156.
7- المثنوي العربي النوري، نور من أنوار نجوم القرآن، ص 468 إلى 476.
8- نفسه، ذيل الحبة، 256.
9- نفسه، قطرة ص 160- 161.
10- نفسه، ذيل الشعلة ص 417.