يعد كتاب صلافة إمبريالية (Imperial Hubris)، الذي كتبه أحد ضباط الاستخبارات الأمريكية، بدون الكشف عن اسمه، واحدا من أكثر الكتب التي صدرت في سياق الحرب الأمريكية على الإرهاب أهمية وإثارة. لا تنبع هذه الأهمية من كون مؤلف الكتاب ما يزال على رأس عمله في جهاز الاستخبارات، وبالتالي على اطلاع مباشر ودقيق على مجريات الأمور، ولكن أيضا لأن الكتاب كتب بقدر كبير من الموضوعية والابتعاد عن الإثارة. وما يعطي هذا الكتاب مزيدا من المصداقية، أن هدفه الصريح ليس إدانة الحرب الأمريكية على الإرهاب، بل تلمس أفضل الطرق لتحقيق الانتصار في هذه الحرب.
في نص بالغ الدلالة والوضوح، كتب الضابط المجهول الهوية يصف الحروب الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة، قائلا: “خلال 13 سنة من العمليات العسكرية المتكررة، لم نتمكن مرة واحدة من دحر القوات العسكرية أو شبه العسكرية، أو من الغوغاء المسلحين، التي حددناها بصفتها العدو، سواء كانت عصابات هاييتي، أو أمراء الحرب الصوماليين، أو فدائيي صدام، أو الملا محمد عمر وصاحبه النحيل ابن لادن. كما لم نسمع عن أرقام خسائر بشرية كبيرة بين الأعداء، ولم نشاهد أكوام السلاح، ولا أعداداً كبيرة من الأسرى، أي ليس من دليل ملموس على الانتصار سوى إعلانات قادتنا البليغة عنه والمراسم الدراماتيكية لعودة الجنود”.
أبعد من خسارة للحرب
يصب هذا النص في الاستنتاج الرئيسي للكتاب، وهو أن الولايات المتحدة هي بالفعل بصدد خسارة الحرب على الإرهاب، ليس لأن الولايات المتحدة لا تملك مقدرات الانتصار بل بفعل السياسات التي اتبعتها في هذه الحرب. تواجه الولايات المتحدة فيما يتعلق بمسألة الخطر المباشر على أمنها ومصالحها تصاعدا في مستوى التهديد والعنف المسلح، بينما ساهمت السياسات الأمريكية الخارجية منذالهجمات على واشنطن ونيويورك في إيجاد خلافات جادة وعميقة بين واشنطن وبعض من أهم حلفائها الأوربيين وغير الأوربيين. ولكن الفشل الأمريكي لم يتجل كما تجلى في تحولات الرأي العام الغربي؛ وما أن أدت الهجمات على واشنطن ونيويورك الى إطلاق موجة واسعة من التعاطف الأوربي مع الولايات المتحدة والشعب الأمريكي حتى خرجت اللوموند الباريسية على قرائها بعنوان رئيسي يقول “كلنا نيويوركيون” -إذا بالرأي العام الأوربي يشهد حالة من العداء السافر لكل ما هو أمريكي. هذا العداء المتصاعد للولايات المتحدة لم يقتصر على دول مثل ألمانيا وفرنسا اللتين عارضت حكومتاهما بوضوح سياسة الغزو والسيطرة التي اتبعتها إدارة بوش تجاه العراق، ولكنه سجل أيضا في أسبانيا وإيطاليا اللتين أيدتا هذه السياسة، بل سجل في كل الدول الأوربية تقريبا. خلال الشهور القليلة التي سبقت الغزو الأمريكي للعراق، بدا وكأن الغرب قدأصبح غربين، حيث وقف الرأي العام الأوربي وعدد من الدول الأوربية في جهة، بينما وقفت الولايات المتحدة في الجهة الأخرى.
إعادة تشكيل الغرب
لقد كان من الخطأ دائما وضع كل الدول والشعوب الغربية في سلة واحدة. لكن الصحيح أيضا أن الولايات المتحدة الأمريكية، ومجموع الدول التي تحتل شمال وغرب أوربا، كان من الممكن أن تعتبر كتلة واحدة يجمعها ميراث ثقافي وقيمي مشترك. تعزز هذا المشترك خلال الحرب الباردة وما استدعته هذه الحرب الطويلة من وقوف هذه الدول معا ضد الخطر السوفيتي، والدفاع عن النظام الديمقراطي الليبرالي. ولم ينظر بقية العالم فحسب لمجموع هذه الدول باعتبارها غربا، ولكن هذه الدول قدمت نفسها للعالم وخطت سياساتها تجاه قضاياه الرئيسية كذلك. لقد تبلور مفهوم الغرب ورؤية العالم له في حقبة صعود حركة التحرر الوطني في العالم الثالث وانفجار العديد من نقاط الصراع التي خلفها نظامالاستعمار المباشر، ونظرا لأن أغلب الدول الغربية كانت أصلا من الدول الإمبريالية، بل إن بعضها أقام في أجزاء من آسيا وأفريقيا أنظمة إمبريالية غاية في البشاعة واللاإنسانية، ولأن الاتحاد السوفيتي استنّ سياسة للتقرب من العالم الثالث، فقد سادت الوضع الدولي -لا سيما بين شعوب آسيا وإفريقيا- نزعة معادية للدول الغربية، تحولت شيئا فشيئا إلى نزعة معادية للغرب، لفكرة الغرب، لرفاهة الغرب، لسيطرته على مقدرات العالم، ولموروثه الإمبريالي. وكان للمنطقة العربية وشعوبها دور مهم وبارز في صراعات الحرب الباردة وفي الانقسام السياسي والثقافي الذي نجم عنها.
تحتل المنطقة العربية موقعا بالغ الحساسية في الإستراتيجيات العالمية، ولفترة من الزمن وقعت أغلب الدول العربية تحت وطأة الاستعمار الغربي الأوربي. ولكن تاريخا يسبق العصر الإمبريالي والحرب الباردة، ولا يقل أهمية عنهما، لعب هو الآخر دورا كبيرا ومستبطنا في تشكيل الرؤية العربية-الإسلامية للغرب، وهو تاريخ الصراع الإسلامي المبكر والوسيط مع أوربا والقوى الأوربية. لقد رأى العرب في الحقبة الإمبريالية، امتدادا لصراعات قديمة، وانتقاما أوربيا من حقبة الصعود الإسلامي القديم، وقد ساهم الخطاب الأوربي الإمبريالي، الذي استعار الكثير من رموز الماضي، في تعزيز هذه الرؤية. جاء الغرب الى بلاد العرب والمسلمين مستعمرا، وعندما انسحبت جيوشه في مرحلة الاستقلال الوطني، لم يترك وراءه ذكرى المجازر التي ارتكبها في سوريا والجزائر واليمن فحسب، بل ترك أيضا كيانا غريبا وتوسعيا في فلسطين، وبلادا عربية مزقت أوصالها، تعيش حالة متصلة من الصراعات البينية. وقد زادت السياسات الغربية المؤيدة بلا حدود للدولة العبرية والمناهضة لوحدة العرب، إضافة لعجز العرب عن اللحاق بمستويات التقدم والقوة الغربيين، من العداء العربي للغرب. لقد تحولت المدنية الغربية منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر إلى منبع استلهام للعرب في سعيهم المضني للنهوض، وأصبح الغرب بالتالي المثال والعدو في الآن نفسه.
11 سبتمبر وبداية مفهوم جديد للغرب
هذه الرؤية للغرب، هذا الوعي به، وهذا الإحساس المعقد بعدائه والعداء له أخذ في التغير خلال مرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، وخلال الاستعدادات الأمريكية لغزو العراق على وجه الخصوص. كان الانقسام الغربي حول العراق حقيقيا ومؤثرا إلى حد كبير، وكان مدويا بلا شك. إن تاريخ الاحتجاجات الغربية على الحروب الإمبريالية تاريخ طويل، ولكن تلك الاحتجاجات في أغلبها -والحرب الفيتنامية أبرز مثال على ذلك- كانت تنطلق بعد ارتفاع حجم الخسائر الغربية وازدياد عدد الضحايا. في الحالة العراقية، كانت المعارضة لمبدأ الحرب، لعدم عدالتها، لعدم وجود مسوغ شرعي لها، ولتعبيرها عن توجه أمريكي صريح للهيمنة والسيطرة على الشأن العالمي. الملايين التي خرجت إلى شوارع لندن، باريس، روما، برلين، ومدريد، كانت تمثل ضميرا أوربيا جديدا، بات يرى في السياسات الأمريكية خطرا على السلم العالمي وعلى التعايش بين الشعوب. لقد رأى العرب والمسلمون أمامهم للمرة الأولى في العصور الحديثة أن الغرب أصبح غربين: غرب أمريكي لا يبدي اكتراثا بالمواثيق الدولية، يسعى إلى عسكرة السياسة الدولية، وبالتالي إلى فرض سيطرته على مقدرات العالم بالقوة المسلحة والموت والدمار، وغرب أوربي تحرر ولو إلى حد من ميراثه الإمبريالي، عززت وحدته المتسارعة من ثقته بالنفس، وقد أخذ يرى دوره في حماية المشترك العالمي، والعمل على تأسيس حقبة من السلم والرفاهية في العالم. ولم يكن غريبا بالتالي أن يشارك العرب والمسلمون المقيمون في أوربا، بكافة أجيالهم وأصولهم، وعلى نطاق واسع، في الحركة الشعبية المناهضة للحرب، وأن يُستقبل جاك شيراك، الرئيس الفرنسي الذي قاد أوربا المعارضة للحرب، استقبال الأبطال في الجزائر، وهو البلد الذي ما زال يحمل ندوب الإمبريالية الفرنسية.
ثمة صورة نمطية تشكلت للرأي العام العربي، أو الشارع العربي كما يحلو للبعض تسميته، شاعت في أوساط المراقبين الغربيين وتبنتها قطاعات واسعة من المثقفين العرب. في هذه الصورة، يبدو الشارع العربي عاطفيا، مجردا من العقلانية، غير واع بمتغيرات العالم وغير قادر على الوصول إلى المعلومات الضرورية الصحيحة التي يحتاجها لتكوين رؤية صحيحة للعالم. وقد اتهم الشارع العربي بالتالي بالتعميم، وبقدرته الفائقة على التسبب في زيادة خصومه وخسارة حلفائه المحتملين. ليس هذا موطن الجدل حول مصداقية هذه المقولات، ولكن حتى إن افترضنا صحتها، فإن الرأي العام العربي لم يخطئ هذه المرة رؤية المتغيرات العالمية، ولا أخطأ التمييز بين حلفائه وأعدائه. هذه المرة، حتىإن لم ينس الرأي العام العربي الميراث التاريخي للعلاقة الطويلة المثقلة مع أوربا فإنه قد تحرر من أعبائها. ما تبقى هو أن تستجيب أوربا الجديدة لهذا الموقف فيما يتعلق بالقضايا الأخرى العالقة في فضاء العلاقة بين الطرفين، بما في ذلك القضية الفلسطينية، وأن تدرك الأنظمة العربية دلالات متغيرات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول والغزو الأمريكي للعراق.