وحدها النفوس النقية التقية تتشوق للقاء رمضان لتزداد إيمانا مع إيمانها ويقينا إلى يقينها، فترقى بخطى واثقة في مدارج السالكين إلى الله على هدى وبصيرة.
كذلك هي حال النفوس اللوامة الصادقة، تنتظر شهر المغفرة لتتطهر وتؤوب إلى بارئها بعدما استفاقت من سقوط معصية أوقعتها فيها غفلة عابرة أو هفوة شاردة كادت تهوي بها في بحر سحيق من الذنوب والمعاصي.
فها هي الآن تتحفز للحظة اللقاء لتغتسل من كل الأدران في حياض هذا الشهر الطاهرة ومياهه العذبة الندية، فتنشط الجوارح وتهفو القلوب وترفرف عالية خفاقة في رحاب ذي الملك والملكوت.
كل هؤلاء وغيرهم الكثير ينتظرون هذا الشهر المبارك بلهفة شديدة. وكلنا أمل أن يوفقنا الله لصيامه وقيامه كما ينبغي ويليق بجلاله وجماله، وألا نكتفي بالصيام عن شهوتي البطن والفرج، فذلك صيام السوقة من الناس. فهمة المؤمن الصادق المقبل على ربه أعلى وأسمى من هذا بكثير.
فحتى نستفيد من مدرسة رمضان ونُكتب من الصائمين حقا وصدقا، علينا أن نصوم -إضافة إلى ذلك- عن الموبقات والمعاصي التي أضحت تنخر قيمنا وتلوث هواءنا وتهدد سلوكيات أبنائنا وبناتنا.
وعلى أجهزة إعلامنا المكتوبة والمرئية خاصة أن تصوم عن تقديم كل ما تفه وهزل من البرامج والمسلسلات والأفلام المائعة والمسابقات الرقيعة الخليعة والتي أصبحت تخذر أحاسيس الناس وتروض أذواقهم على الفساد والانحراف في الأذواق والسلوكيات.
على الموظف أن يصوم عن التلاعب بمصالح المواطنين وابتزازهم. وأن يصوم أيضا عن التثاقل والتماوت في أداء مهامه بحجة أنه صائم.
على المدرس أن يصوم عن إضاعة أوقات تلامذته في الكلام الفارغ وأن يصوم أيضا عن لَيِّ أذرعهم لأخذ دروسه الخصوصية لقاء مبالغ شهرية تقتصها الأسر الفقيرة من قوت أبنائها الآخرين.
على مثل هؤلاء أن يتقوا الله فيمن استرعاهم الله للقيام بواجب تعليمهم والسهر على تربيتهم التربية الصالحة البانية.
وعلى المسؤولين الصيام عن استغلال سلطتهم للتسلط على المواطن المظلموم دون وجه حق، وليعلموا أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب.
وعلى القائمين على حاجيات المواطن الصيام عن لي ذراعيه بالوسائل المعروفة لإرغامه على دفع مقابل لقاء خدمات هم يتقاضون أجورا من أجل القيام بها.
وعلى المواطن أن يصوم هو الآخر عن الغفلة والفوضى واللامبالاة والمساهمة في انتشار ظاهرة الرشوة والمحسوبية وغيرهما.
وقد أصبحت ظواهر تزكم الأنوف وتهدر طاقات وأوقات ومصالح كثيرة وتحرم البلاد والعباد من مشاريع استثمارية هائلة قد تمتص آفة البطالة المستشرية بين الشباب، الذي أصبح فاقدا للأمل، يفضل ركوب البحار والأهوال وملاقاة الحيتان على العيش الذليل.
وعلى الآباء والأمهات الصيام عن الاستهتار واللامبالاة في تربية أبنائهم وبناتهم. وتركهم في بحر لُجي يغشاه الفساد والانحراف من كل جانب… فالأب أو الأم وهي ترى ابنتها تخرج من البيت إلى الشارع أو المدرسة شبه عارية وهي في كامل زينتها وأناقتها حتى تسيل لعاب الشباب النهم، وحتى الكبار في الشوارع، فهذا الأب أو الأم عليهم أن يراجعوا صيامهم ويراجعوا مسؤوليتهم أمام ربهم.
فقد ر اعني منظر شباب في المدارس في عمر الزهور وهم يضعون أصباغا مختلفاً ألوانها فوق رؤوسهم وأقراطا في آذانهم كالفتيات. ناهيك عن تناول المخدرات والمسكرات أمام أبواب المدارس والثانويات نهارا جهارا.
هؤلاء هم أبناؤنا وما أظن أنهم نزلوا من المريخ. فآباؤهم مسؤولون مسؤولية جسيمة أمام الله والمجتمع عن كل إفساد أو انحراف يحدثه هؤلاء الأبناء.
والظن عندي أن هؤلاء الآباء باستهتارهم وعدم الحرص على تنشئة أبنائهم تنشئة صالحة سيخلفون لمجتمعاتهم عاهات مستديمة، وبدلا من صدقة جارية يلقون بها ربهم يوم القيامة، سوف يخلفون مفسدة جارية تعود عليهم بالحسرة والندامة.