عندما يكون الجوع سلاحاً في يد الأعداء لكسر إرادة الضعفاء
يكون أيضاً سلاحاً في يد الضعفاء لكسر هيمنة الأقوياء
إن الإطعامَ من الجوع، والأمنَ من الخوف نعمتان عظيمتان يتفضَّل الله تعالى بهما على مَن آمَنَ به حَقَّ الإيمان، وعبدَه حقَّ العبادة. الأمْرُ الذي يدُلُّ على أن الدِّين هُوَ أساسُ النِّعَمِ كلِّها، فمن أراد الرَّخاءَ فليعبد الله، ومن أراد الأمْنَ فليعْبُد الله، ومن أراد العدْل فليعبد الله، ومن أراد الأسرة الصالحة فليعبُد الله، ومن أراد الحكمَ الصالح فليعبد الله، ومن أراد النصْرَ على الأعداء فليعبُد الله، ومن أرادَ الحِمايةَ من كيد الأعداء فليعْبُد الله {وإنْ يُريدوا أن يخْدَعُون فإن حَسْبَك اللَّه} أي الله عز وجل يكفيك كلّ ما أهمّك وما لا تهتم له من أمر الدنيا وأمر الآخرة، أمْرِ الروحِ وأمْرِ الجسد، أمْر الحاضِر وأمْرِ المستقبل، الكُلُّ بيدِ الله، ومفتاحُ الوصُول إلى هذه الحقيقة الربانية {أَلَيْس الله بِكَافٍ عبْدَهُ} هُو وضْعُ العَبْد يَدَه في يد الله تعالى، فمن أراد الوصول إلى درجة الحسْبية والكفاية، أي أن يكون الله حسْبَه، وكافِيَه، فليرتبط بالله، وليثق بالله، ولْيعتَمدْ على الله، وليجْعَلْ الله عزو جل رِبْحَهُ ورأس ماله، وليعبُدْه وحْده لا شريك له.
لكن الذي ينبغي أن يُفهَم فهماً جيّداً أن الله لا تخدعه المظاهر، بل هو سبحانه مُطَّلع على المظاهر والسّرائر، ودَعْوى الإيمان تحتاج إلى امتحان وابتلاءِ {ألم أحَسِب النَّاسُ أن يُتْرَكُوا أن يَقُولُوا آمنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُون} ولهذه السنّةِ الربانية، سنة الابتلاء، قال تعالى : {ولنَبْلُونَّكُم بشَيْءٍ من الخَوْفِ والجُوعِ ونَقْصِ من الأمْوالِ والأنْفس والثمرات وبشّرِ الصّابرين الذين إذاَ أصابَتْهُم مُصِيبةٌ قالُوا إنّا لله وإنا إليه رَاجِعُون أولئك عَلَيْهِم صلَواتٌ من رَبِّهم ورحْمة وأولئك هُم المُهتدون}.
فالناجحون هم الذين يقولون {إنّا لله وإنّا إليه راجِعُون} والناجحون بامْتيازٍ هم الذين يفوزون بصلوات الله عليهم، وإمْدادهم برحماته المسترسِلة التي لا تُحَدُّ ولا تُعد ولا تُحْصى.
أما الذين لا يعرفون الله عز وجل فأنّى يعرفُهم الله تعالى؟ (اعْرِفْ اللَّهَ في الرَّخَاءِ يعْرِفْك في الشّدة).
فالجوعُ سِلاحٌ ذو حَدَّين : جُوعُ ابتلائِيٌّ يخْتَبر الله تعالى به المومنين ليواجهوه بالصّبْر والثبات، وبذلك يُصَفَّوْن تصفيةً كاملة من الشكوك والاهتزازات فيُؤَدّوا ثَمن سلعةِ الله الغالية وهْي الجنة.
وجوع انتقامي يعاقِبُ الله تعالى الناكصين عن دين الله تعالى عناداً وجحوداً لعلَّهم يعرفون ربّهم، مثل ما وقع لآل فرعون {ولَقد آخَذْنَا آل فِرْعونَ بالسِّنِين ونَقْصٍ من الثّمراتِ لعلَّهُم يَذَّكَّرُون}(الأعراف) ومثلما وقع لكفار قريش حينما جحَدُوا النّعمة ولم يشكروا ربَّها {وضَرَب الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةِ مُطْمئِنَّةً ياتِيها رزقُها رَغَداً مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللّهِ فأَذَاقها الله لِباس الجُوعِ والخوفِ بِما كَانوا يَصْنعُون}(النحل).
هذان النوعان من الجوع لا دخل للإنسان فيهما، وإنّما ينزلان به نزول اختبار وابتلاء، أو نزول عقوبة وانتقام، فالأول يصاحبُه تألُّمٌ ورِضىً بما قدّر الله، والثاني يصاحبُه تسخُّطٌ وتبرُّمٌ وشكوى وقنوطٌ وزيادة جُحُودٍ وكفران ونُكران وزيادةُ تطيُّرٍ وتشاؤم.
هذان الجوْعان لايجدُ الإنسان فيهِما ما يأكُلُه، سواءٌ صَبر أو سخط.
هناك نوعٌ ثالث من الجوع، هذا النوع الثالث هو الجوعُ الاختياريُّ، هو الجُوعُ الذي يفْرضه الإنسان على نفسه لغاية ساميةٍ، وللذةٍ عاليةٍ ساميةٍ راقيةٍ لا يعْدِلُها الالْتِذَاذُ بالأكْلِ والشرب لحظاتٍ قصيرةً يستسْلِمُ بعْدها لشهواتٍ دنيوية عارمة، هذا الجوعُ هو الذي قال فيه رسول الله في الحديث القدسي : >كُلّ عمل ابنِ آدمَ يُضَاعَفُ : الحسَنَةُ عشْرُ أمثالِها إلى سَبْعمائة ضعْفٍ، قال الله عزوجل : إلاّ الصّوْم فإنَّهُ لِي وأنَا أجْزِي به، يدَع شهْوَتَهُ وطَعَامَهُ مِنْ أجْلِي<(رواه الخمسة).
هذا الجوعُ الاختياريّ سمّاه الله تعالى صِياماً أي إمْساك الانسان عن الشهواتِ المتوفرة لله تعالى ليتطهّر من ذنوبه، ويتقرّب إلى ربّه طالباً رضَاهُ ورحْمَته، قال : >إن الله تَبارك وتعالى فرضَ صِيام رمضان علَيْكم، وسنَنْتُ لكُمْ قِيَامَهُ، فمَنْ صامَهُ وقَامَهُ إيماناً واحْتِسَاباً خَرجَ منْ ذُنُوبِه كَيَوْمِ ولَدَتْهُ أمُّهُ<(رواه النسائي وأحمد).
إن إيمانا واحتساباً تعنيان جهداً لا يُسْتعْجَلُ أجْرُه، ولا يُطلب اليوم ثمنُه، لأن باذلَه قرّر حين بذله أن يجْعَله ضِمْن مُدّخراته عند ربّه، نازلاً عند قوله {ذَلِك اليوْمُ الحَقّ فمن شاءَ اتّخذ إلى ربِّه مآباً}؟
فهل كُلّ الناسِ يستطيعون أن يدَّخِروا أرصِدة الصّوم عند الله تعالى؟!.
مع الأسف : الجائعون كثيرون، أمّا الصائمون فقلة قليلة. فمن ترك الطعام والشراب وجميع شهواته لله فقد صام، ومن صام ببطنه وفرجه وجوارحه وعواطفه ومشاعره ونيته ومقاصده فقد صام، ومن استشعر رحمة الله تعالى في هذه المناسبة، وعرَف حِكمة هذا الشهر، وحِكمة التحكم في الشهواتِ في هذا الشهر لله فقد صام.
إن الجوعَ سلاحٌ في يد الأعداء يستخدمونه لكسْر إرادة الضُّعفاء وإذْلالهم إذَا لم يكونوا يحملون عقيدة صافية، وغايةً ساميةً أسْمى من الدنيا وما فيها، وفعلاً نجد أن بعض الأقوياء فرضوا على الشعوب الإسلامية حصاراً اقتصاديا كان آخره الانهيارً الكامِل للزعماء الضعفاء، الذين ارتمَوْا على أعتاب الأعداء مهللين مكبرين تائبين خاشعين، لأنهم لم يصبروا لله ولم يجوعوا لله، فكان الانهيار..
لكن المسلمين في مكة حاصرتهم قريش ثلاث سنوات لم يكونوا يجدون ما يأكلون إلا ما تجود به أريحية بعض أصحاب المروءات سِرّاً، أو ما يستطيعون شراءه بالأثمنة المضاعفة، ومع ذلك صبروا واحتسبوا لله، لأنهم كانوا يحملون رسالة تغييرية للعالم، فهانت عليهم أنفسهم لله، ولذلك قواهم الله عز وجل وصبّرهم، ورعاهم وحفظهم، فخرجوا من الحصار أقوى معنويا وإيمانيا مما دخلوا فيه.
وكانت النتيجة أن قريشا يئست من هذه الوسيلة، وعرفت أن لهؤلاء ربّا يطعمهم ويسْقيهم ويحفظهم من جميع أمراض الجوع وتداعياته.
فالجوع سلاح في يد الأعداء لتكسير إرادة الضعفاء، وسلاحٌ في يد الضُّعفاء أيضاً لتكسير هيمنة الأقوياء.
في السيرة النبوية غزوة تسمى غزوة سيف البحر أو غزوة الخبط، زادُ الصحابة فيها كان عبارة عن بعض المزاوِد من التمر، قسمَهُ القائد عليهم عندما بدأ ينفدُ الزاد، فكان نصيبُ الواحد منهم في الأيام الصعْبة تمرةً في اليوم، وأخيراً لم تبق لهم حتى تلك التمرة، فلم يشتكوا ولم يتبرّموا، بل بدأوا يأكلون أوراق الشجر أياما”ً، حتى وصلوا إلى سيف البحر، فأخرج الله لهم دابة أكلوا منها نحواً من ثمانية عشر يوماً، وهم نحوٌ من ثلاثمائة رجل، فلم يعرفوها ما هي؟! وما اسمها، فأكلوا حتى سمنوا، وقدَّدوا منها، فأتوا بشيء من القديد لرسول الله الذي قال لهم : >ذاك رزق ساقه الله إليكم<. جاعوا لله، واحتسبوا جوعهم لله، فرزقهم الله من حيث لم يحتسبوا.
وغاندي، ألَمْ يهزم الأمة البريطانية -على عظمتها- بضرب الحصار عليها، حصار الضعفاء للأقوياء، بالأكل مما يزرعون، ولباس ما ينتجون، وتَرْكِ المستعمر يأكل صِنعته وسلاحه وغذاءه، فكانت النتيجة خُضُوع القوي للضعيف.
أليس من حِكَمِ الصوم الكبيرة أن يجعلنا الله أحراراً ولسْنا عبيد شهواتِ البطن والفرج حتى نستطيع هَزْم أقوى العتاة، وأطغى الطغاة إذا خرجْنا من حُظُوظ أنفسنا للاحتساب لله.
إن الصناديق الدولية وأخواتها من البنوك الدولية تحاصرنا بالقروض المضاعفة الفائدة، وتهدِدُنا بالتجويع والخنْق والإفلاس فهل يستطيع قادتنا أن يتقشَّفوا، ويعطوا المثل في التقشف للشعوب، كي تُقتدى بهم وتصبر لله كما صبروا، وتتقشف كما تقشفوا لنبْنِي أنفسنا بناءً متينا؟!
نشرت بعض الجرائد هذا الأسبوع أن عشرات من الموظفين يتقاضون عشرين مليوناً شهرياً، فهل هذه أجرة تتناسب مع شعب غا رق في التخلف الاقتصادي والتعليمي والسياسي والتصنيعي، وهل أصحاب هذه الأجور الخياليّة يُعوَّل عليهم في الجوع لله، والصبر لله، والتصدق لله والتطوع لله، والتضحية لله؟!. إن الصيام أكبرُ تدْريب على قمْعِ الشهوات، وتقدير المسؤوليات لو فقِهْنا حكمتَهُ الفقه الكبير، وقدّرنا رسالة هذا الشهر العظيم.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الصائمين، وأن يهْدي الجائعين ليصوموا ويهدي الحائرين ليستقيموا، ويرزق القلقين والقانطين من هذا الشهر الكريم رضاً واطمئناناً، حتى يكون هذا الشهر نقطة تحول في طريق الخير والصلاح.
فاللهم نوِّر قلوبنا بنور الإيمان، واشْرح صدورنا لتحمُّل رسالة القرآن، اللهم وفقنا لصيامه وقيامه ونيل بركاته آمين.