دقائق معدودات بعد انبلاج ضوء الفجر كانت الصدمة قاصمة.. انقباض طارئ يجثم على أنفاسي.. ويسلمني إلى نوبة بكاء أستحضر معها كل المكلومين وهم بالملايين من المسلمين يبكون مثلي جثثنا المثناثرة في الشارع العام للفرجة والشماتة المشرعة .. ألسنا بمثابة الجسد الواحد كما قال سيدي أبوالقاسم ؟ أليس الاستهداف يقصد كل من يشهدون أن لا إله إلا الله وأن إسرائيل عدوة الله وعدوة الأمن والسلام كما قال الأوروبيون أنفسهم ؟!!
وبالتالي فمن منا يضمن أن لا يكون مزقا مبعثرة هنا أوهناك حين ينادي المنادي باسم واشنطن أوتل أبيب؟؟..
وهل بهذا المعنى أبكي مصيرنا وأنا المسلمة المؤمنة بقوله سبحانه : {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا}.. وهل تراني أمج مصيرا استشهاديا بهذا الألق كما في حالة فقيدنا وصحبه الميامين ؟؟
حاشا ثم حاشا، إنما تبكيني غثائيتنا ونحن كثيرون كثيرون بلا وزن يُهاب ويُقَدّر، وإلا فكيف يستأسد علينا الأقزام ..وكيف تتهددنا كمشة إرهابيين باستراتيجية طويلة المدى لإجتثاث رموز عزتنا المهيضة، كما جاء بكل صلافة إرهابية على لسان وزير خارجية كيان العدو، عشية اغتيال الشيخ الجليل؟؟.
لا أملك إذن غير “جهاد الدمع”!!! على غرار كل الخوالف بخرائط الفرجة، ودماء الشيخ “ياسين” وصحبه ترصع صدر الإسفلت البارد فجرا، وتشيع في ثنايا ترابه، دفء حضور عصي على الإفناء، حتى ولوكانت أداة الجريمة الهتلرية، هي طائرات وصواريخ زعيمة معسكر الحرية والسلام والحرب على البرابرة المسلمين، أمريكا.. والمصاب جد ثقيل هذا الفجر الحزين، فكيف لي أن أحمله لوحدي . أدير قرص الهاتف في أول اتصال ..يغالب صديقتي “خديجة مفيد” البكاء وأنا أعلمها بالخبر، وهي القوية العتيدة ..هاتف صديقتي الأخرى “بسيمة الحقاوي” وكذا “سعاد لعماري” لا يجيب .أتردد لفترة من الزمن قبل أن أدير قرص هاتف أستاذتي ومؤنسة غربتي سيدة الصمت الناطق الأديبة ” خناتة بنونة”، لمعرفتي بحجم الألم الذي يسكنها هذه الأيام، مع الزحف التتري الذي تعرضت له العراق، والأرق المستديم الذي بات أنيسها وهي تراكم في صمتها ” الضاج العربيد”، كما تقول هي نفسها، جراحات هذه الأوطان الشبيهة في شساعتها وخوائها في نفس الآن بالمثل العزيز على قلب أمي، “الكبير فالكركاع خاوي”!!..
يأتيني صوتها مكتوما متحشرجا مثخنا بالفاجعة .. تخبرني بأنها تعالج ارتعاشا شاملا بجسمها منذ الساعات الأولى لسماع النبأ بعد تأديتها لصلاة الفجر..نتبادل بعض عزاء وأغادر خطها مثقلة بنفس الانقباض ..ما الذي أملكه لحزن كبير وشامخ وضارب الجذور في الولاء للقضايا الإسلامية وعلى رأسها القضية الفلسطينية كحزن خناثة ؟؟ ..
في لحظة حسم عسيرة أتدثر بالسواد وأيـمم مذهولة صوب الباب، وجهتي إلى مدينة الرباط حيث الاخوة بجريدة “التجديد والعصر” لعلي أجد بعض عزاء، فهذا الموت الباهض يتجاوز كل قدراتي على المصابرة ..وأحتاج إلى من يقاسمني ألما عملاقا لا طاقة لي على تدبـيره ..وبعد طول تفكير في الأمر أمام الباب، أعود أدراجي إلى ركني أمام التلفاز.. يقعدني عن السفر، الخوف من أن يتبدد حزنـي، إذ تمتصه السحنات اللآمبالية لمواطنين نـحـت الإعلام المتخاذل ملامح استقالتهم وهويغمسهم في مسابقات “الدردكة والتهريج” باسم التنشيط..ثم إنني بحاجة إلى البقاء قريبة من مصادر أنباء تحترم نفسها قليلا لعلي أنفس بعضا من حنق على قناة (مغربية) ؟؟ كانت كعادتها المتفسخة، تدرج آنها مسلسلا لاتينيا إباحيا بكل المقاييس!! غير معنية البتة بما يجري من وقائع زلزال مهول بالمشرق الإسلامي .. ولاعجب ففاقد الشيء لا يعطيه، وأسمعت كما يقول الشاعر لوناديت حيا/ ولكن لا حياة لمن تنادي ..ودليل الموت، أن يتكلم المسؤول عن هذا الفسوق والعصيان أمام الشاشات العالمية المحترمة ساعات بعد المجزرة الصهيونية الموجهة ضد جميع العرب والمسلمين، عن فضيلة العودة إلى مائدة السلام الأسطورية!!!
والأدهى أن يكون ناطقا باسم حكومة لها تاريخها الرمزي في معاداة الصهيونية والإمبريالية ونصرة الكفاح الفلسطيني تحت قيادة ( الرفيق) عرفات.. ولا زال يتحدث عن السلام،كأننا في جزر الواقواق، ولسنا نتابع ملحمة إبادة شعب الجبارين الفلسطينيين يوميا .. ولم نصعق بفصول اغتيال همجي لرجل كسيح مقعد، ضدا عن الأعراف والقوانين الدولية كما صرح بذلك المسؤولون الغربيون الشجعان .. حقا كما تقول أمي : (تخلطوالعرارم)!..
أتبادل العزاء مع إخوتي بجريدتي (التجديد والمحجة). هاتف جريدة (العصر) لا يجيب .. يدعوني الاخوة في جريدة (المحجة) إلى تزويدهم بمقال في النازلة الأليمة ، في ركني (من أوراق شاهدة) ..الشاهد الحق على كساحي أمام هذا الطوفان .. فماذا عساي أقول وكيف أفلح في الإحاطة بهذا البحر الهائج المتلاطم بداخلي ..
ما أدركه جيدا هوأني لست موقنة من أن القلم سيطاوعني لتسطير ملحمة رحيل رمز بهذه المساحة وبحجم هذا العمق وهذا التجذر في الذاكرة المعاصرة للنضال الفلسطيني، ونضال الأمة جمعاء ضد حزمة من الغاصبين جاءوا على ظهر دبابة لاحتلال أرض بأصحابها وتاريخها، يصحبهم وعد بلفور ويواصلون الاحتلال على ظهر دبابات جديدة،يصحبهم وعد (بوش) وتبريكات أصحاب الأمس الذين زرعوهم سرطانا في جوفنا، وأفتوا في المقابل بإرهابية حماس!! .. ولا أظن حتى الخاطر المشبع بلوعة الفقد الباهض لشيخ الثوار المجاهدين والمدرك لمصادر النكبة يسعفني لإقامة محاكمة عادلة أكون قاضيتها، وأنا إحدى متهماتها!!..
إن أمة تنجب أجيالا تتقاتل بالعصي والسكاكين من أجل سوبر ستار تدعى “نانسي عجرم”، وتقتل نفسها كمدا وحزنا وهي تخسر صولتها في عالم التنشيط البليد أوعلى فريقها الكروي الخاسر، وتتحدى العسكر بهراواته الشرسة من أجل زعيق مغنية أومزاجية بالون من هواء، وتلوذ بالجحور خوفا من نفس العسكر إذا أهينت في هويتها وعاث العدوفي جذورها وحاضرها وحتى مستقبلها ! .. أمة بهذه المواصفات، لاريب تشكومن هزال وشحوب دعاتها ومثقفيها وعلمائها، قصورا أوخيانة وانبطاحا للأعداء.. وبالتالي فقتلة الشيخ الجليل “أحمد ياسين ” هم نحن من مـختلف مواقعنا، نحن المترهلون الضجرون من نضالنا “الكلمنجي” المتنعم بفنادق (الستة نجوم).. نحن الهياكل العظمية المتمترسة بالاحتجاجات المتأنقة والبكائيات العابرة .. نحن العاقلين جدا، بدليل إصدارنا كل دقيقة وثانية لبيانات وتصريحات بحسن النية والطوية في نبذ الإرهاب، المجرجرون لـجبة الإسلام إلى محافل السفلة والحاقدين، ليعلم القاصي والدانـي أن الإسلام الطيب الظريف الطيع، ككيس الساحر، يحمل كل الوعود والمفاجآت، ويحتمل بكل ممنونية أن يلوى عنقه، لكل السفالات باسم الاجتهاد والحوار والتسامح !..
وفي المقابل، فلهذا الشيخ الجليل الجبار على الباطل أن ينعم بصحبة الأبرار من الشهداء في دار الجزاء الأوفـى، رفقة رسولنا الكريم وصحبه، فقد خلف وراءه صقور الأمة الأشداء على الباطل، ويكفيه شهادة تعليه وتكرمه حيا وميتا أن تكون في سجل بواسله الأشاوس، هذه الثلة من تلميذاتـه الإستشهاديات، اللواتي حسبهن العدو،هووأسياده، مجرد إماء كسيرات يجـرون أذيال غطرسة الذكور، ضعيفات مضطهدات باسم الإسلام العنصري !! فلقننه بكل مساواة مع إخوانهن من الذكور، دروسا باهرة في الجهاد الباسل الأعزل الذي لا يختبئ وراء الأباتشي والدبابات العملاقة!!..
لينم شيخنا قرير البال قرير العين وقد أعد هذه العدة الصلبة، لعتق هذه الأمة العنـينـة اللاهية قبل عتق نفسه. وصدق رسول الله حين قال في حديث بليغ : >كل الناس يغدوفبائع نفسه، فمعتقها أوموبقها<.
ترى أي الناس نحن بعيدا عن هذا السجل الحافل للشيخ عليه أجل الرحمات هو وإخوانه من الشهداء، هل من المعتقين أم من الموبـقين لأنفسهم؟، هذا هوالسؤال. ونسأل الله حسن الخاتمة.
و{إنا لله وإنا إليه راجعون}.