إن رسائل النور خزينة ملآى بالقواعد والأصول التي تسدد مسيرة الجماعة وتوجه المجتمع إلى سواء السبيل ، ومهما بالغنا في الإيجاز، فإنه يصعب علينا درجها جميعا هنا. إلاّ أننا نكتفي بذكر ست منها فقط وهي :
أولا : العمل الإيجابي الخالص :
يوضح الأستاذ النورسي العمل الإيجابي في درسه الأخير الذي ألقاه على طلابه بالآتي :
“إن وظيفتنا هي العمل الإيجابي البنّاء وليس السعي للعمل السلبي الهدام. والقيام بالخدمة الإيمانية ضمن نطاق الرضى الإلهي دون التدخل بما هو موكول أمره إلى الله. إننا مكلفون بالتجمل بالصبر والتقلد بالشكر تجاه كل ضيق ومشقة تواجهنا وذلك بالقيام بالخدمة الإيمانية البناءة التي تثمر الحفاظ على الأمن والاستقرار الداخلي في البلاد”(1). نعم ، العمل بمقتضى مرضاة الله هو الإيجابي، والعمل لغير وجهه الكريم للنفع والرياء أو ما شابه فهو السلبي.. والتوكل على الله وترقب النتيجة منه هو الإيجابي ، والمداخلة لتدبير الله وشؤونه هو السلبي. والمحافظة على أمن المجتمع ووحدته هو الإيجابي، وإثارة الخلاف والإخلال بالأمن والنظام الداخلي واستعمال العنف في سبيل زعزعة أركانه، تحت أي إسم كان هو السلبي. إذ السلاح لا يوجّه إلى المسلمين داخل العالم الإسلامي، وإنما يوجه إلى العالم الخارجي المتعدي. أما في داخل العالم الإسلامي فإن الجهاد يكون جهاد دعوة بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وجهاد علم وبذل ونصيحة إعلاءً لكلمة الله(2).
ثانياً : الانقياد للأوامر الشرعية والأوامر التكوينية معا :
توضح رسائل النور بأن السنن الكونية هي شريعة الله الفطرية آتية من صفة الإرادة الإلهية مثلما أن الشريعة المعروفة بالقرآن والسنة النبوية آتية من صفة الكلام الإلهي.
ويعلل الأستاذ النورسي أن أحد أسباب تخلف المسلمين في الوقت الحاضر وظهور الكفار عليهم، هو عدم مراعاتهم عامة القوانين الكونية أي الشريعة الإلهية الفطرية في أمورهم . لذا ينالون جزاء عصيانهم لهذه القوانين عقوبة في الدنيا لأنه: “كما أن هناك طاعةً وعصياناً تجاه الأوامر الشرعية المعروفة، كذلك هناك طاعةٌ وعصيانٌ تجاه الأوامر التكوينية. وغالباً ما يرى الأول ـ مطيعُ الشريعة والعاصي لها ـ جزاءه وثوابه في الدار الآخرة. والثاني ـ مطيعُ السنن الكونية والعاصي لها ـ غالباً ما ينال عقابه وثوابه في الدار الدنيا. فكما أن ثواب الصبر النصر، وجزاء البطالة والتقاعس الذلُّ والتسفّل.كذلك ثواب السعي الغنى،وثواب الثبات التغلب.مثلما ان نتيجة السمِّ المرضُ، وعاقبةَ الترياقِ والدواء الشفاء والعافية…”(3).
يُفهم من هذا أن السنن الكونية الإلهية، شريعةُ الله الفطرية وقوانينُه النافذة ساريةٌ في الكون كله جاريةٌ على المؤمن وغير المؤمن، فلابد إذن من مراعاتها والالتزام بها لأنها أوامر إلهية كونية كالأوامر الشرعية المعروفة ، أي: أنّ مَن التزم بها يبلغ مراده مؤمناً كان أو غير مؤمن، ومن خالفها يعاقب عليها في الدنيا قبل الآخرة مؤمناً كان أو غير مؤمن.
وبناء على هذا يقول الأستاذ النُوْرْسي:
“إن من يشق طريقا في الحياة الاجتماعية ويؤسس حركة، لا يستثمر مساعيه ولن يكون النجاح حليفه، ما لم تكن الحركة منسجمة مع القوانين الفطرية التي تحكم الكون، بل تكون جميع أعماله لأجل التخريب والشر”(4).
ثالثاً : التدرج الفطري وترك الإستعجال :
وهو أساس من الأسس المهمة التي تحث عليه رسائل النور. وجزء من قوانين الفطرة التي فُطر الخلق عليه فلقد “وضع الله سبحانه وتعالى في وجود الأشياء تدريجاً وترتيباً أشبه ما يكون بدرجات السلم، وذلك بمقتضى اسمه” الحكيم”، فالذي لا يتأنى في حركاته، إما انه يطفر الدرجات فيسقط، أو يتركها ناقصة فلا يرقى إلى المقصود.”(5). بمعنى : من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.
ومن هنا يعد الأستاذ النُوْرْسي ” الامتثال والطاعة لقانون التكامل والرقي للصانع الجليل – الجاري في الكون على وفق تقسيم الأعمال – فرض وواجب، إلاّ أن الطاعة لإشارته ورضاه سبحانه الكامنين في ذلك القانون لم يوف حقها “(6).
رابعاً : عدم حصر الحق في المسلك بذاته :
إن حصر الحق في المسلك بذاته يعني أن يرى المرء نفسه في صواب دائما ويجعل المسالك الأخرى خاطئة أو باطلة. فيصفه الأستاذ النورسي بأنه ” مصاب بمرض ضيق الفكر وانحصار الذهن الناشئين من حب النفس. ولاشك أنه مسؤول أمام رب العالمين عن تغافله عن شمول خطاب القرآن إلى البشرية كافة.
ثم إن فكر التخطئة هذا، منبع ثر لسوء الظن بالآخرين، والانحياز، والتحزب في الوقت الذي يطالبنا الإسلام بحسن الظن والمحبة والوحدة! ويكفيه بعداً عن روح الإسلام ما شقّ من جروح غائرة في أرواح المسلمين المتساندة، وما بثه من فرقة بين صفوفهم، فأبعدهم عن أوامر القرآن الكريم.”(7)
ولأجل تلافي هذا الفكر لابد من مراعاة الأسس الآتية بلوغا إلى الإخلاص :
“1- أن يعمل المرء بمقتضى محبته لمسلكه فحسب، من دون أن يرد إلى تفكيره، أو يتدخل في علمه عداءُ الآخرين أو التهوين من شأنهم، أي لا ينشغل بهم أصلاً.
2 – بل عليه أن يتحرى روابط الوحدة الكثيرة التي تربط المشارب المعروضة في ساحة الإسلام – مهما كان نوعها – والتي ستكون منابع محبة ووسائل أخوة واتفاق فيما بينها فيتفق معها.
3- واتخاذ دستور الإنصاف دليلاً ومرشداً، وهو: أن صاحب كل مسلك حق يستطيع القول: “إن مسلكي حق وهو أفضل وأجمل” من دون أن يتدخل في أمر مسالك الآخرين، ولكن لا يجوز له أن يقول: “الحق هو مسلكي فحسب” أو “أن الحسن والجمال في مسلكي وحده” (بمعنى أنه حصر الحق في مسلكه) والذي يقضي على بطلان المسالك الأخرى وفسادها.
4- العلم بأن الاتفاق مع أهل الحق هو أحد وسائل التوفيق الإلهي وأحد منابع العزة الإسلامية..”(8).
———
1- سيرة ذاتية ص469 /2 – سيرة ذاتية ص 119، 207
3 – الكلمات ص872 /4- اللمعات ص 160
5- المكتوبات ص 362
6- صيقل الإسلام/محاكمات – ص 43
7- صيقل الإسلام/السانحات – ص 350
8- اللمعة العشرون ص 229