هل هو قدر العراق أن تداس بأرضه القيم الإنسانية ؟ وأن تتعرض ساكنته للتعذيب الوحشي الممنهج؟وأن تنهب خيراته وتسرق نفائس تراثه ليلاً ونهاراً؟وأن يصلى أهله أنواع العذاب؟ حتى يتعالى النداء تلو النداء، لمناشدة الضمير الإنساني في العالم كله، شرقا وغربا: أنقذوا الإنسانية في العراق.
ليس هذا العنوان النداء من عندي، وإنما هو عنوان كتيب صغير بدون مؤلف محدد، موقع بالعبارة الآتية : (نداء اللجنة العربية لحقوق الإنسان) ومعظمه كتب باللون الأحمر، وقليله بالأسود، وكأنه بما سال من دماءء غزيرة على أرض العراق عبر تاريخه الطويل الحافل بالأحداث والمآسي من جهة، وبولن الحداد من جهة أخرى، وتتخلله صور لأجساد مشنوقة على الأعمدة أو محروقة مفحمة، أو مكبلة الأيدي ملقاة وراء القضبان، فما أشبه الليلة بالبارحة.
لقد عرف العراق طيلة تاريخه أحداثا جساما لفتت الأنظار إليه، وأثارت اهتمام العالم كله، ولاسيما منذ الحروب المأساوية البينية التي دارت رحاها بين أنصار علي ومعاوية، مرورا بمأساة كربلاء، وبتدمير البصرة ومأساتها التي أبكت القلوب قبل العيون، وهي الداهية التي شغلت الناس في وقتها في القرن الثالث الهجري، حتى جفاهم النوم من هول الصدمة، وعم البكاء، حسب تعبير ابن الرومي في ميميته المؤثرة التي افتتحها بقوله:
ذاد عن مقلتي لذيذ المنام
شغلها عنه بالدموع السجام
وتعرض العراق لهجمات وحشية من المغول والتتار الذين دكوا معظم ما بناه الأوائل، وأحرقوا ونهبوا وعاثوا فسادا في البلاد والعباد، وأتوا على رصيده الثقافي والحضاري، وألقوا بكنوزه العلمية في دجلة والفرات حتى اسْوَدَّ ماؤها من مداد آلاف المخطوطات، وشكلت الكتب جسورا لمرور خيولهم، وما أكثر المآسي التي توالت على تلك الأرض المعطاء ، ولكن عبقرية أبناء العراق كانت دائما حافزا لإعادة البناء وتجديد العزيمة.
وفي الأمس القريب امتدت أيدي أذناب الشيوعية المقيتة إلى أبناء العراق فسامتهم ما لا يخطر على بال من ألوان العذاب، وغدت معظم أحياء مدن العراق مجازر رهيبة بعد أن تم الزج بالأبرياء في السجون التي تناسلت هنا وهناك، يسومونهم العذاب ويتفننون في التنكيل بهم في انتظار ما عرف بمحكمة الشعب برئاسة المهداوي، ومما جاء في هذا الكتيب:
إن الإنسانية في طريقها الطويل ، وعذابها المرير، لم تشهد من المآسي ما شهده الإنسان العراقي اليوم على يد عصابة سمت نفسها الحزب الشيوعي العراقي.
وما أشبه اليوم بالبارحة، فمن معاناة العراق تحت مظلة الشيوعية بالأمس القريب، إلى معاناة الشعب العراقي اليوم على يد الإمبريالية،هما إيديولوجيتان متناقضتان جملة وتفصيلا، ولكن معاناة الإنسانية في العراق تحت مظلتهما واحدة، لا فرق كبيرا بين اليوم والأمس إلا في المزيد من ألوان الإذلال والتعذيب والتنكيل : بالأمس قام دعاة الشيوعية من المغرر بهم من أبناء العراق أنفسهم بأداء أدوار المسرحية الصادمة لكل ضمير حي، فالجميع معرض للشنق والخنق وسحب الأحياء في الشوارع إلى أن يلفظوا أنفاسهم، والجميع يرزح تحت ألوان التنكيل من نزع الأظافر والضرب بالقضبان الحديدية والكي بالنار والحرمان من النوم والوقوف على رجل واحدة والمنع من الخروج لدورات المياه… والكل معرض لهدم البيوت على ساكنيها، ونهب ما فيها، وكل من هو غير شيوعي متهم ومعرض لما لم يخطر على البال من ألوان التعذيب الوحشي، والمجازر الرهيبة المفزعة المهينة للكرامة الإنسانية وانتهاك الأعراض في بغداد مدينة السلام، وفي كركوك، وفي الموصل وغيرها من مدن العراق.
ولقد كان هذا الواقع القذر للعراق في ذلك الوقت الصعب دافعا إلى الجهر بهذا النداء الموجه حينذاك إلى من يلتمس فيه موقف إنساني نبيل، والنداء الذي ختم به الكتيب المذكور آنفا موجه إلى الضمير الإنساني في جميع أنحاء العالم، بصيغة الجمع على سبيل التعميم هكذا( وبعد، فإننا نناشد العالم، أجل العالم أجمع،نناشد الأمة العربية، نناشد المسلمين والمسيحيين المحبين للعدالة والحرية أن يتأملوا في هذا الذي يحدث في العراق…)
ومن التعميم إلى ضرب من التخصيص، وذلك بتوجيه الخطاب إلى القادة العرب حينذاك في المشرق والمغرب دون استثناء:
( إننا نناشد قادة الأمة العربية، نناشد جمال عبد الناصر، سعود، حسين، الأمام أحمد، السنوسي، عبود، محمد الخامس، بورقيبة، شهاب، أمراء الكويت والبحرين…، نناشد هؤلاء القادة أن يتأموا في فواجع العراق، وأن يطيلوا التفكير في مآسي العراق. إننا نناشد هيئة الأمم المتحدة ، ولجنة حقوق الإنسان، لإنقاذ الإنسانية المعذبة في العراق)
وها نحن اليوم أمام الوضع نفسه في العراق، ولذلك فالنداء نفسه لا يزال قائما، ولكن بمزيد من الإلحاح، وهو موجه إلى الجهات نفسها ، تعميما وتخصيصا، وبالصيغة نفسها مع تحيينه، ومع ما يقتضيه الزمن من تغيير في أسماء القادة، ومع مراعاة المستجدات لتكون الطبعة الجدية لمأساة العراق مزيدة ومنقحة، فقد تم تدبير المؤامرة على العراق منذ إقحامه في حرب الإخوة مع جارته إيران لإضعافهما معا، ثم بتوريطه في قضية جارته الكويت، وازدادت الحبكة إتقانا حين حوصر بتهمة امتلاك أسلحة الدمار الشامل، وبتهديده للمنطقة وللعالم أجمع، وقد تابع العالم كله باستغراب لا مزيد عليه كيف اجتاحت قوات التحالف الإمبريالي أرض العراق، بقيادة أكبر دولة سياسية واقتصادية وعسكرية في العالم، “راعية الحرية وحارسة الديموقراطية”، الحريصة على احترام حقوق الإنسان، بدون أدنى مقاومة ولا إطلاق رصاصة واحدة من طوائف الجيش العراقي على تعددها وكثرتها، وكأن الاجتياح كان صلحا، أو كأن العراق لا يملك من الأسلحة والعتاد حتى ما يكفل له شرف المواجهة والدفاع عن النفس،بدل الذل والاستكانة والتفرج على جحافل القوة الغازية وهي تتموضع في أحياء المدن العراقية، وتتمركز في النقط الحساسة لتضمن لنفسها الحماية، وتنهب الرصيد التاريخي والحضاري الشامخ لهذا البلد، وتتسابق إلى اختيار القصور الفخمة والفنادق الرفيعة لاستقرارها،وكأن أرض العراق خلاء لا حامي لها، ولا مدافع عنها، وكأن الإنسان فيها قد لبس طاقية الإختفاء، أو كأن الغزاة الذين جاؤوا من بلاد بعيدة، قد نفثوا الغبار السحري على ساكنة البلاد فانطمست عيونهم وحالت بينهم وبين رؤية غزاتهم، أو ألزموهم بالإقامة الجبرية في بيوتهم حتى لا يعكروا عليهم صفو الاجتياح الظالم، أو يحولوا دون انتشائهم بالنصر المصطنع، فأين أسلحة الدمار الشامل؟ وأين الأباة من أبناء العراق ؟ وأين وأين وأين…؟
ولا شك أن قوات التحالف كانت خائفة، تحس بالذعر في كل مكان، وتستشعر التهديد هنا وهناك، وتتوقع هجوما هنا أو مباغتة هناك، وأن أنفاسها كانت تتصاعد، وأن قلوبهم بلغت الحناجر أو كادت، لكن ظنونها وتوجساتها خابت، وخابت معها توقعات العالم أجمع حين لم يطلق مالكو أسلحة الدمار الشامل ، على زعمهم ، رصاصة واحدة ولم يفزع هؤلاء الإرهابيون، على زعمهم سكينة الغزاة الذين أطلقوا عنان الكذبة الكبرى وكانوا أول من صدقها، وظلوا يحاولون إقناع أبناء جلدتهم والعالم أجمع بصحة ما زعموا دون جدوى، فأين الإرهاب؟ ومن هو الإرهابي حقا؟ وأين أسلحة الدمار الشامل؟ هل تبخرت؟
والأفظع من ذلك أن ما جاء هؤلاء من أجل تحقيقه ، حسب تصريحاتهم ،قد وقع الإخلال به، لاسيما حين بدأ أبناء العراق الأحرار يحسون بالذل والهوان اللذين سلطا عليهم دون إرادتهم، ودون ذنب اقترفوه، ودون وجود من يدافع عنهم ويحمي كرامتهم ويصون سيادتهم المنتهكة، فأخذوا يدافعون تلقائيا عن أنفسهم بأسلحتهم البسيطة التي لا علاقة لها بأسلحة الدمار الشامل، فاتهموا بالإرهاب وهم يسامون ألوان العذاب في عقر دارهم ، وفوق أرضهم ، وتنهب خيرات بلادهم، وتسرق أموالهم وأرزاقهم جهارا، ولكن ذلك زاد من إذكاء روح المقاومة والدفاع المشروع عن النفس والعرض والكرامة، فارتفعت وتيرة المواجهة تدريجيا بشكل بطولي لم يكن أحد يتصوره أو ينتظره، فووجهوا بالمزيد من العنف، وحطمت المساجد والمدارس والدور، وانتهكت الحرمات على يد من يدعون حمايتها، وكان ما كان من تقتيل وتنكيل وأسر للأبرياء، ودوس لكرامة الإنسان، وبلغ التنكيل ذروته في سجن أبو غريب وأمثاله من المراكز المنتشرة هنا وهناك، وتشهد على ذلك صور الاستغلال الجنسي البشع، والاغتصاب الجماعي السادي للرجال والنساء، وهي صور التقطها الجناة أنفسهم تلذذا بالمشاهد الدرامية المهينة للقيم الإنسانية بأي مقياس من المقاييس، بطريقة بشعة تترجم العقد النفسية المزمنة التي يعاني منها الغزاة، ولا شك أن لجوءهم إلى استغلال ضعف الإنسان العراقي المقيد في السجن دون أدنى درجة من الحياء يعد قمة الاستهتار بالكرامة الإنسانية، وأعلى ذروة لدوس حقوق الإنسان واحتقار قيمه بأي معيار من المعايير، وكان ذلك بمثابة النقطة التي أفاضت الكأس، والعامل الذي حرك بعض الضمائر، ولا سيما بعد نشر مجموعة محدودة من الصور المدينة للفاعلين بالحجة والبرهان ، وما خفي كان أفظع وأفدح….وللحديث بقية.