عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال رسول الله : >لا يؤمن أحَدُكُم حتَّى يكون هَوَاه تَبَعاً لمَا جِئْتُ بِه<(خرجه أبو نعيم في كتاب الأربعين).
الذي يستفاد من هذا الحديث هو أن الإنسان لا يكون مؤمنا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام من الأوامر والنواهي وغيرها فيحب ما أمر به ويكره ما نهى عنه.
وأصل هذا الحديث في القرآن الكريم :
قوله تعالى : {فَلاَ وربِّك لا يُومِنون حتى يحكِّموك فيما شجر بَيْنهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلِّموا تسليما}(النساء : 65).
وقوله تعالى : {ومَا كَان لمؤمِن ولا مؤمنةٍ إذا قَضَى اللّه ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من أمرهم}(الأحزاب : 36).
وفي مقابل ذلك ذم الله عز وجل من كره ما أحبه الله، وأحب ما كرهه الله.
قال تعالى : {ذَلِكبأنَّهم كرِهُوا ما أنزَلَ اللَّه فأحْبَطَ أعْمَالَهم}(محمد : 9).
وقال عز وجل : {ذَلِك بأنهم اتّبعوا ما أسْخَط الله وكَرِهوا رِضْوانَه فأَحْبط أعمالهم}(محمد : 28).
فالحديث يركز على حقيقتين مركزيتين هما :
- المتابعة والموافقة والامتثال والطاعة لكل ما جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام.
- والتحْذير من الابتداع في الدين، لأن المبتدع يحكم هواه ويعبد الله حسب رغباته وميولاته.
مفهوم الهوى
- أصل الهوى : الميل إلى الشيء وحبُّهُ والرّغبةُ فيه يُجمع على أهواء. وقيل : سمي الهوى هوىً لأنه يهوي بصاحبه في النار. ولا يستعمل غالباً إلا فيما ليس بحق وفيما لا خير فيه. ومنه قوله تعالى : {أَفَكُلّما جَاءكُم رسول بما لا تهْوى أنْفسكم استكبرْتُم، ففريقاً كذبتم وفريقاً تقْتُلُون}(البقرة : 87)، وهو انكار على بني اسرائيل الذين كذبوا ما جاء به عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وقتلوا يحيى وزكرياء عليهما السلام.
ويستعمل الهوى في الحق كذلك :
أ- من ذلك حديث الباب >لا يومن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئْت به<.
ب- ومن ذلك قول عائشة رضي الله عنها : >والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك< وذلك عندما نزل قول الله تعالى : {تُرْجي من تَشَاء مِنْهن وتُوْوي إليك من تَشاء ومن ابتغَيْت ممّن عزلت فلا جناح عليك}(الأحزاب : 51).
قالت عائشة رضي الله عنها : كنت أغار على اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله وأقول : أوَتهب المرأة نفسها لرجل؟! فلما نزلت هذه الآية قالت >ما أرى ربك إلا يسارع في هواك<.
جـ- ومنه قول عمر بن الخطاب ] في أُسارى بدر : فَهَوِي رسول الله ما قال أبو بكر، ولم يَهْو ما قلت.
إن الإنسان في حياته اليومية يتعرض باستمرار لنوازع الهلكة وما أكثرها كمايتعرض لنفحات النجاة وما أقل المستمسكين بها. يقول أبو الدرداء ] : >إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمَلُهوعِلمه، فإن كان عمله تبعاً لهواه فيومه يوم سوء، وإن كان تبعاً لعلمه فيومه يوم صالح، وتسوء أيّام المرء بركوب مطايا الهلكة، وتصْلُح باقتناء أثر مسالك النجاة والتي رسمها الحديث النبوي الشريف : >ثلاث مهلكات، وثلات منجيات :
فالمهلكات : شح مطاع، وهوًى متبع، وإعجاب المرء بنفسه.
والمنجيات : خشية الله في السر والعلن، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضى والغضب<.
لكن ما العمل إذا شاعت المهلكات، وانتشرت الموبقات، وعمت بها البلوى؟!
- هل المؤمن يشارك فيها؟!
- أم يشاهد ويتفرج من بعيد؟!
- أم يتحسر وينْفُث الزفير في الهواء..!؟
- أم يكثر من الحوقلة والتهليل…!؟
ربما هذه حالة كثير من الناس : {وتراهُم ينْظُرون إِليكَ وهم لا يُبْصِرون}(الأعراف : 198).
والحقيقة أن هذه مواقف يومية تلاحق المؤمن، مما يجعله في حيرة من أمره يردد الأمثال “العين بصيرة واليد قصيرة” يستحضر الآيات {لوْ أنّ لِي بكم قُوّة أو آوي إلى ركْن شديد}(هود : 80)، {عليْكُم أنفسكم لا يَضُرّكم من ضلّ إذا اهْتدَيْتُم}(المائدة : 105) يروي الأحاديث : >إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوَى متّبعاً، ودنيا مؤثرة، واعجَابِ كلّ ذي رأْي برَأيِه فعليك بخاصة نفسك ودعك مِنْ أمْر العامة<(رواه الترمذي).
يخلص من الأدلة الى فكرة أساسية وهي : (إذا فقدت القدرة على تغيير المنكر فلا أُشارك في انتاجه وتصديره).
خطار اتباع الهوى
> أ- شيـوع الصنمية واختفـاء التوحيد :
كانت العرب إذا هوِي الرجل منهم شيئاً عبده من دون الله، فإذا رأى أحسن منه ترك الأول وعبد الأحسن لذلك قال ابن عباس : الهوى إله يعبد من دون الله ثم تلا قوله تعالى : {أفرأيت من اتّخَذ إلهَه هواه وأضلّه الله على علم}(الجاثية : 23). والعبادة تعني الطاعة والمحبة، تأمل حولك في الجماهير التي تحكم الهوى و”الصلاة قائمة” في الملاعب الرياضية، في المقاهي، في المعامل والمصانع، في الجلوس أمام التلفاز، المرأة واتباع ماجد في عالم الموضى والأزياء وجديد الطبخ والأفلام والمسلسلات وهلم جرا..
> ب- الشطط في الحكم والجور في القضاء :
من معاني الهوى أنه انحراف وضلال عن طريق الهداية قال تعالى : {ومَنْ أَضلّ ممن اتّبع هواهُ بغير هدى من الله}(القصص : 50) والحكم القائم على الهوى أثره وثمرته الضلال والظلم والفساد.
ومن ثم جاء التوجيه الرباني لنبي الله داود عليه السلام، ومن خلاله لكل حاكم ومسؤول.
{يا دَاوُد إِنّا جعَلْناك خليفة في الأرض فاحْكُمْ بين الناس بالحقِّ ولا تتّبِع الهوى فيُضِلّك عن سبيل الله}(ص : 26) وقوله تعالى : {فلاَ تتّبِعُوا الهَوى أنْ تَعْدِلُوا}(النساء : 135).
فإن اتباع الهوى يورد المهالك ولا يحمل على الشهادة والقضاء والحكم بالحق بل يحمل على الجور وانتهاك الحرمات. قال الرازي في تفسير الآية : اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفين بالعدل.
ولا عدل فوق الأرض إلا ما كان تابعا لما جاء به رسول الله .
قال الشعبي : أخذ الله على الحكام ثلاثة أمور :
- ألا يتبعوا الهوى.
- ألا يخشوا الناس ويخشوه.
- وألا يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا.
وحُكْم الله حق وعدل، وحكم رسول الله صدق وانصاف : {وما يَنْطِق عن الهَوَى إنْ هُوَ إلا وَحْيٌّ يُوحَى}(النجم : 3).
> د- شيوع الدناءة والصغار بدل العزة والوقار :
إن العلماء إذا اتبعوا الهوى خانوا الله والرسول وخانوا أمانة التبليغ عن الله والحكم بما أنزل الله على رسوله وركنوا إلى الحياة الدنيا واطمأنوا بها، ويعتبر العالم الاسرائيلي “بلعام بن باعوراء الذي أرسله نبي الله موسى عليه السلام إلى مدين داعيا إلى الله فترك الدعوة ووالى الظالمين وحشر في زمرتهم وعرض الله هذا النموذج في أقبح صورة منفرة للذين يستدرجهم الهوى إلى الوقوع في دركات الارتداد عن المثل الأعلى في الحياة للعلماء فقال عز وجل : {واتْلُ عليهم نَبَأ الذي آتَيْناهُ آيَاتِنا فانْسَلَخَ مِنْها فأَتْبعه الشيطان فكان من الغاوين، ولو شِئْنَا لرفَعْنَاهُ بِها ولكنَّه أخْلَدَ إلى الأرْضِ واتّبَعَ هَوَاه، فمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْب إن تحْمِل عليْه يلْهَث أو تتْرُكْهُ يلهَثْ ذلك مثل القوم الذين كذّبوا بآياتنا فاقْصُصِ القَصص لعلهم يتفكرون}(الأعراف : 176).
قال الأصمعي : سمعت رجلا يقول :
إن الهوان هو الهوى قلب اسمه
فإذا هَوِيتَ فقد لقيت هواناً
وسئل ابن المقفع عن الهوى فقال : هوان سرقت نونه فنظمه شاعر وقال :
نون الهوانِ من الهوى مسروقة
فإذا هويت فقد لقِيت هوانا
العلاج من الهوى
- قال سعد بن عبد التستري : هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك.
- وقال ابن دُرَيْد :
إذا طالبتك النفس يوما بشهوة
وكان اليها للخلاف طريق
فدعها وخالف ما هويت فإنما
هواك عَدُوٌّ والخِلافُصديق
- وقال وهب : إذا شككت في أمرين ولم تَدْر خيرهما فانظر أبعدهما من هواك فأْتِه.
- وأما أكبر علاج للهوى فهو مراقبة الله في السروالعلن والخوف منه تعالى في كل زمان ومكان. قال تعالى : {فأمّا من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى،وأمّا من خاف مَقَامَ رَبِّه ونَهَى النّفْسَ عَنِ الهَوَى فإنّ الجَنَّةَ هِي المَأوَى}(النــازعات : 37- 40).