من نافلة القول إن طرق العمل الدعوي الإسلامي تعددت وتنوعت، وتنوع معها الخطاب الدعوي من مركز على التربية إلى آخر مركز على السياسة وثالث على الثقافة… وفي هذه الصفحة سنعيش ـ على مدى حلقات بحول الله ـ مع الأستاذ محمد فتح الله كولن أحد قيادات العمل الاسلامي في تركيا وأحد الناهلين من معين تراث الشيخ بديع الزمان النورسي رحمه الله، وسنطل على التجربة التركية الغنية من خلال كتابه (طرق الإرشاد في الفكر والحياة) الذي يعتبر كتابا في (فقه المعاناة والألم من أجل الدعوة إلى الله).
وقد تطرق الأستاذ كولن في العدد الماضي عن قضية التبليغ التي هي غاية الأنبياء وهدف المرسلين من أبينا آدم عليه السلام إلى الخاتم محمد في رحلة المعاناة التي اقترنت بحسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي بها تصلح الأحوال الفردية والجماعية للاجتماع البشري. ونواصل فيهذا العدد هذه الرحلة الممتعة مع الأستاذ كولن في الحلقة الثانية :الحلقة الثانية : الحاجة إلى التبليغ ومكتسباته
جثث خاوية من العشق والمحبة
إنساننا اليوم بحاجة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر من أي وقت مضى، فالنبوة قد ختمت بخاتم الأنبياء ، فسُدّ ذلك الباب سداً نهائياً.
…وإن الذنوب الناجمة من النظر من منافذ أجواء شتى، وما تترك من انطباعات في أذهاننا قد اقتحمت حتى أغوار قلوبنا بل جعلتنا مشلولي القوى، فباتت ليالينا خالية من الأشواق ومحاريبنا محرومة من الدموع. ولا أدري ماذا ننتظر من مصائب بحالتنا هذه الشبيهة بجثة هامدة خاوية من العشق والمحبة؟ وربما المصيبة التي هي أدهى منها هي الطرد من رحمة الله الذي أصاب الشيطان (والعياذ بالله).
نعم، نحن أناسي هذا القرن نُصبح ونُمسي مع الذنوب، فلو رُفع الحجابُ عن أبصارنا وشاهدنا ماهيتنا المعنوية لكنّا أول من يولّي فراراً من حالتنا تلك.
وعلى الرغم من كثرة إجرامنا وانهيارنا وسقوطنا فإن إيداع ربنا الكريم وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلينا ليس إلا من حاجتنا الشديدة إلى رحمته تعالى. فنحن في منتهى الضعف والعجز والله سبحانه في منتهى العلو والرحمة. ولو عبّرنا عما يختلج في وجداننا بـ”الحمد لله” ألوف المرات لكانت زهيدة أيضاً تجاه رحمته الواسعة هذه.
لقد غدا القرن العشرون قرن انهيار كل شيء حقاً باسم المعنى والروح، إذ زاغت النظرات وغُشيت الأبصار وقُصمت الظهور، وغدت مواقع القياد خلاف طهر المحراب. وعلى الرغم من هذه الظروف غير الملائمة فإن صوت سيد المرسلين وأنفاسه الطاهرة تُسمَع ولو بهمسات خافتة. وإن صدى أقواله المباركة التي نطق بها قبل عصور، يتجاوز المكان والزمان ويصل إلينا، وما هذا إلا رحمة ربنا. وإلاّ كيف نفسر هذا الأمر؟ ولهذا فما علينا إلا أداء الشكر على هذا اللطف العميم. وذلك بأن نملأ أعماق أرواحنا بأنفاسه الطاهرة الباعثة على الحياة ونستنشقها. فالذين يؤدون الشكر بهذا الشكل ينجون بإذن الله في العاقبة.
يقول سعدي الشيرازي :
تُرى أيُّ غمّ قد يَحيقُ بأمةٍ
لها أنت في الدنيا ظهيرٌ ومعوانٌ
وما الخوف من موج البحار إذا طغى
ونوح على ظهر السفينة رُبانُ(1).
نعم نحن نبحر في سفينة النجاة، ربانها سيد المرسلين، ورباننا يهتف بنا قائلاً : “لا نجاة إلا من ركب السفينة”. أفلا نستجيب لهذا النداء معاً؟
مهمة التبليغ
يقول تعالى : {ولْتكُنْ مِنْكُم أمَّةٌ يَدْعُون إلى الخَيْر ويَأْمُرونَ بالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْن عنِ المُنْكَرِ وأُولَئكَ هم المُفْلِحُون}(آل عمران : 104).بمعنى : يكون كل واحد منهم كالنجم القطبي في المجتمع لتهتدي بهم سفينة المجتمع التي تمخر عباب بحر الحياة الاجتماعية إلى سواء السبيل، فتُنظم القيادات وتوزع المسؤوليات وفقهم. وبهذا تُقلل الانحرافات والتخلفات إلى أصغر حد ممكن. فهذه الجماعة الرائدة تكون ملتحمة مع هذه الوظيفة إلى حد أن الذين يتفرسون فيهم لا يجدون أنفسهم إلا أنهم أمام مجسّم الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وبذلك يكونون موضع ثقة وتصديق. فإن لم تكن ضمن مجتمع، جماعة تتصف بهذه الصفات وتستمر عليها، فاقرأ على ذلك المجتمع السلام فقد انتهى أمره. فلن يهتدوا إلى الصواب طالما ليس فيهم مثل هذه الجماعة.
وبعكسه إن كان في موضع ما جماعة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فاللّه سبحانه وتعالى ضامن أن يحفظ أهل ذلك الموضع من كل المصائب السماوية والأرضية. نعم، الله سبحانه ضامن إذ ليس غيره يقدر أن يضمن ذلك قط، وذلك بنص القرآن الكريم {ومَا كَانَ رَبُّك ليُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وأهْلُها مُصْلِحون}(هود : 117). فأقول استناداً إلى بيان القرآن الكريم وأقوال جميع الأنبياء والأولياء العظام : إن الله جل وعلا لا يُنزل مصيبةً على موضع يؤدّى فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. حتى لو استحق المجتمع ذلك العقاب فالله سبحانه يرفعه عنهم لأجل تلك الجماعة الرائدة، لشدة ارتباط قلوبهم به سبحانه. إذ لا تمضي دقائق عمرهم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم في وجل واضطراب مستديمين. حتى استولى عليهم هذا الأمر وأصبح شغلهم الشاغل لا ينفكون عنه؛ في مأكلهم ومشربهم ومنامهم ويقظتهم، يتفكرون : كيف نبلّغ هذا الأمر؟ ومتى؟ ولمن؟ فكأن هذه الحالة سرّ وجودهم. وطالما أمثال هؤلاء من عباد الله الذين نذروا أنفسهم لله يصولون ويجولون في صفوف مجتمع ما، فهم في أمان لا تصيبهم مصائب وبلايا سماوية وأرضية. لذا إن كنا نريد أن نكون في أمان من المصائب السماوية والأرضية فعلينا العودة فوراً إلى تسلم وظيفتنا التي خُلقنا لأجلها.. وعلينا أن نعرف قطعاً أن المصائب النازلة تنزل بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولئن كنا نريد دفع تلك المصائب والبلايا فلا يتحقق ذلك إلا بأداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلا تحوز عبادة أخرى على هذه الخاصية. وقد يهلك الله شخصاً أو جماعة أو قوماً ويخسف بهم الأرض، وهم يذكرونه ويعبدونه ويتلون الأذكار آناء الليل وأطراف النهار ويطوفون ببيته الحرام إلا أن يكون ذلك الشخص أو الجماعة أو القوم مهمومين بأداء مهمتهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقلقين عليها، وعندها يتعهد الله سبحانه تلك البلدة ويحفظ أهلها من الهلاك.
…يمكننا أن نقيّم حقيقة التبليغ والدعوة في الأرض والحاجة الماسة إليها من زاوية أخرى بالآتي :
إنه بمقتضى خلافة الإنسان في الأرض، فقد منحه الله سبحانه وتعالى القدرة على التصرف في الأشياء وبوّأه مكانة عالية في خلافة الأرض واهباً له إرادة بإرادته. فلا “أنانية” إلا في الإنسان من بين المخلوقات. فهو بهذا “الأنا” والخواص الموهوبة له يبلغ إدراك حقيقة هويته وذاته. وذلك بالتعرف على أسماء الله الحسنى وصفاته الجليلة بتجلياتها المتنوعة. لأن “الأنا” المعطى له ما هو إلا وحدة قياسية ليُشعره بالتملك والحرية، فيستطيع به أن يدرك ربّه ومالكَه وقدرته على كل شيء، وذلك بوضعه خطوطا افتراضية لمُلكه ومَلَكاته النسبية بالقياس إلى مطلقات صفات الله الجليلة.
الانسـان الخليفة
وهكذا فإعطاء هذه الميزة والخاصية للإنسان يعني قبوله خلافته منذ البداية. ومعلوم أن الله سبحانه قد خلق آدم عليه السلام بعد خطابه الملائكة : {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة}(البقرة : 30) وأعطاه حق التصرف في الأشياء وعيّنه خليفة في الأرض. والخليفة لا يستطيع أن يتجاوز الحدود المرسومة له من قبل من استخلفه، تلك الحدود التي وضعَتْ بالأوامر الإلهية المبلّغة إلى أنبيائه الكرام. ومتى ما عمل الإنسان بمقتضى تلك البينات والأحكام الإلهية يكون مؤدياً مهمة الخلافة على أفضل وجه.
يروي الحسن البصري ] حديثا مرسلا يوضح هذا المفهوم : (من أمَرَ بالمَعْرُوف ونَهَى عن المُنْكَر فهو خليفةُ الله في الأرضِ وخليفةُ كتابِهِ وخليفَةُ رَسُولِهِ)(2).
إن واجب كل إنسان هو معرفة الله سحبانه وتعريف الآخرين به تعالى وإظهاره بأطواره وأحواله أنه لله سبحانه. وكذا من الواجب أيضاً معرفة رسوله وكتابه والتعريف بهما. وكذا تحويل أوامر الله وأوامر رسوله إلى حياة معاشة هو الآخر ضمن هذه الوظيفة. علماً أن هذه الوظائف هي غاية وجود الإنسان. بمعنى أن الإنسان بقدر أدائه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون منجزاً وظيفته الملقاة عليه. وجميع هذه الأمور وسائل مهمة لبلوغ الإنسان خطوة فخطوة إلى رضى الله سبحانه وتعالى.
تروي درة بنت أبي لهب رضي الله عنها : (قَالَتْ قَامَ رَجُل إلى النّبِيّ وهُوَ على المِنْبَرِ فَقَال يا رَسُول الله أيُّ النّاس خَيْرٌ فَقَال خَيْرُ النّاسِ أَقْرَؤُهُم وأتْقَاهُم وآمَرُهُمْ بالمَعْرُوفِ وأَنْهَاهُمْ عنْ المُنْكَر وأَوْصَلُهُم للرّحِم)(3).
نعم إن خير الناس من يأمر بالمعروف وينشر الخير والفضيلة حتى يصبح ويمسي به، وينهى عن المنكر باذلاً قصارى جهده لمنع السيئات، متقياً رب العزة، جاعلا حياته المعاشة وفق ما يقتضيه اندماج أوامر القرآن الكريم والشريعة الفطرية، أي ينظر إلى الأشياء والحوادث من زاوية الحقائق المنبجسة من القرآن الكريم، شفيقاً على الخلق، واصلاً للرحم. وهذه هي أهم الوظائف.
فإن كنا حقاً نستشعر برباط العلاقة مع إنساننا الحاضر ونعتقد أننا نعطف عليه ونحتضنه بالرحمة والشفقة، فإن أحسن دليل على صدق تصرفنا هذا هو أداء ما يجب علينا من وظائف نحوه، ولا شك أن العمل المقدّم في هذا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا علينا السعي الجاد لأداء هذه الوظيفة تجاه الإنسانيةجميعاً.
——
1- كلستان سعدي الشيرازي -روضة الورد : ترجمة : محمد الفراتي ص 9.
2- الديلمي، الفردوس، 586/3.
3- المسند 432/6، البيهقي، شعب الإيمان 220/6.