قال تعالى : {وفي السماء رزقكم وما توعدون، فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون}(الذاريات : 22- 23)
من المسَلَّمات الكبرى في عقيدتنا نحن المسلمين أن الرزق من الله سبحانه وأنه مقدر في الأزل، وأنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، قال تعالى : {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين}(هود : 6) مكتوب ومسجل في اللوح المحفوظ. وقال {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم}(الأنعام : 151) {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق. نحن نرزقهم وإياكم}(الإسراء ) والإملاق الفقر، وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود] قال : حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق “إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات : يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد” فيكتب الملك ما قدر الله للعبد من الرزق قليلا كان أو كثيرا، وتطوى الصحيفة ـ كما في رواية مسلم من حديث حذيفة بن أسيد ـ فلا يزاد فيها ولا ينقص
ولو أن الناس استحضروا هذه الحقيقة : أن الرزق مقدر ومحدد، وأن الرزاق هو الله {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} لارتاحت ضمائرهم، واطمأنت نفوسهم، فإذا ترسخ ذلك في قلوبهم ثبتوا على الحق في جميع المواطن، وأمام الفتن والمحن، فإن المسلم الحق الذي يعرف أن رزقه بيد الله وحده، وأنه لا دخل لأحد مع الله فيه لا يساوم على دينه من أجل المال، ولا يتنازل عن مبادئه مقابل عرَض من الدنيا قليل، عندما يعرف المسلم أن الله هو المعطي، وأنه لامانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وأن الله تعالى قد قسم الأرزاق كيف يشاء بحكمته كما في قوله الكريم {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا، ورحمة ربك خير مما يجمعون} (الزخرف : 32) يعيش في راحة تامة وطمأنينة كاملة، فلا يسرق ولا يغش ولا يطفف ولا يخون… وإنما يجتهد في كسب رزقه المقدر من عند الله كما أمره الله سبحانه {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه، وإليه النشور}(الملك : 15) {فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله}(الجمعة : 10).
يروى أن قوما من الأعراب زرعوا زرعا فأصابته جائحة فحزنوا لأجله، فخرجت عليهم أعرابية فقالت : مالي أراكم قد نكستم رءوسكم، وضاقت صدوركم، هو ربنا والعالم بنا، رزقنا عليه، يأتينا به حيث شاء.
وهنا أحب أن أسجل لك أخي الكريم موقفين من مواقف الموقنين بأن الرزاق هو الله. وبأن الرزق مقدر ومحدد، خصوصا ونحن نعيش في زمن الرأسمالية المتوحشة حيث لا حديث إلا عن المال، ولا مطلب سوى المال، وحيث الاقتتال بين الناس أفرادا وجماعات، ودولا وحكومات على المال، وحيث الحروب مشتعلة في كل مكان من أجل المال.
الموقف الأول : موقف الأشعريين :
ذكر الترمذي الحكيم في “نوادر الأهوال” بإسناده عن زيد بن أسلم، أن الأشعريين : أبا موسى وأبا مالك وأبا عامر في نفر منهم لما هاجروا وقدموا على رسول الله في ذلك وقد أرملوا من الزاد، فأرسلوا رجلا منهم إلى رسول الله يسأله، فلما انتهى إلى باب رسول الله سمعه يقرأ هذه الآية {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} فقال الرجل : ما الأشعريون بأهون الدواب على الله فرجع ولم يدخل على رسول الله ، فقال لأصحابه : أبشروا، أتاكم الغوث، ولا يظنون إلا أنه قد كلم رسول الله ، فوعده، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجلان يحملان قصعة بينهما مملوءة خبزا ولحما فأكلوا منها ما شاءوا، ثم قال بعضهم لبعض، لو أنا رددنا هذا الطعام لرسول الله ليقضي به حاجته،فقالوا للرجلين : اذهبا بهذا الطعام إلى رسول الله[ فإنا قضينا منه حاجتنا، ثم إنهم أتوا رسول الله فقالوا : يا رسول الله، ما رأينا طعاما أكثر ولا أطيب من طعام أرسلت به، قال : ما أرسلت إليكم طعاما فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم، فسأله رسول الله فاخبروه ما صنع، وما قال لهم، فقال رسول الله “ذلك شيء رزقكموه الله”(1)
الموقف الثاني : موقف أعرابي :
قال الأصمعي : أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلدا سيفه وبيده قوسه، فدنا وسلم وقال : ممن الرجل؟ قلت : من بني أصمع، قال : أنت الأصمعي؟ قلت : نعم، قال : ومن أين أقبلت؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمان قال : وللرحمان كلام يتلوه الآدميون؟ قلت نعم، قال : فاتل علي منه شيئا، فقرأت {والذاريات ذروا} إلى قوله {وفي السماء رزقكم} فقال : يا أصمعي حسبك، ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها، وقال : أعني على توزيعها، ففرقناها على من أقبل من الناس وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه, فكسرهما ووضعهما تحت الرحل وولى نحو البادية وهو يقول : {وفي السماء رزقكم وما توعدون}، فمقت نفسي ولمتها، ثم حججت مع الرشيد، فبينما أطوف إذا أنا بصوت رقيق فالتفت، فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل مصفى ، فسلم علي وأخذ بيدي وقال : اتل علي كلام الرحمن، وأجلَسني من وراء المقام، فقرأت {والذاريات ذروا} حتى وصلت إلى قوله : {وفي السماء رزقكم وما توعدون} فقال الأعرابي : لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، وقال : وهل غير هذا؟ قلت : نعم، يقول الله تبارك وتعالى {فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون} قال : فصاح الأعرابي، وقال : يا سبحان الله، من الذي أغضب الجليل حتى حلف ألم يصدقوه في قوله حتى ألجأ وه إلى اليمين؟
لقد أيقن ذاك الأشعري وهذا الأعرابي أن الله هو الرزاق، وهو المعطي، فكان من أمرهما ماكان، فما عليك ـ أيها القارئ الكريم ـ إلا أن تتحرك في كسب رزقك وأنت موقن بأنه لن يكون لك إلا ما كتب الله، وأن رزقك مضمون ومعدود فاجتهد في ما طلب منك من الطاعة والعبادة، واطمئن لما قدر لك من الرزق {وآمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها، لا نسألك رزقا، نحن نرزقك والعاقبة للتقوى}.
——
1- الجامع لأحكام القرآن 7/9