ما أكثر الدروس والمواقف التي توالت على أمتنا، ولكن هل من معتبر؟ غير أن الدرسين الأخيرين فيما يبدو كانا أكثر صدمة وأنفذ أثراً، تشيب لها الولدان، وتهتز الأوطاد والجبال، يا للهول! شيخ مسن مقعد، يبث بحقه المشروع، تدبر ضده المؤامرة النكراء، ويتجند خبراء الإجرام ويهيئون الخطة الغاشمة لاغتياله، ولكنهم لم يكونوا يعرفون بأن الهدف المرصود من هذه المؤامرة قد باع واشتُري منه، وتحقق له ما رجاه من ربه في أحسن وقت، بعد أداء واجبه الديني صباحاً. وقد خاطب ربه بكلمات كعادته فاستجاب له، وها هو ينعم في جنان الخلد مع الشهداء والصالحين، مع الأنبياء والمرسلين، وحسن أولئك رفيقا.
إنها صدمة للرأي العام، ووصمة عار في جبين المعتدين، وتوجس وترقب من صاحب الدور المقبل، هذا هو الدرس الأول الذي كان وسيظل مادة للإعلام بمختلف وسائله وتوجهاته ومواقفه، ولكن ماذا بعد؟ وما هي العبرة؟ وما هو رد الفعل على مختلف الأصعدة؟ هل يتم ضبط النفس حتى تخف حدة المصاب مع الزمن؟ أم تكون هذه الحادثة فرصة للدفاع المشروع عن الحق المشروع بمختلف الوسائل المشروعة؟ ولكن كيف؟ وعلى يد من؟ ومتى؟.
وأما الدرس الثاني فقد جاء سريعاً، ولما تفق الأمة من الصدمة،والرأي العام تحت تأثير الحدث، يتماوج فكره ويتساءل : لماذا؟ وكيف/ فلا يحصد إلا الإحباط تلو الإحباط، وقبل أن يلملم نفسه يتلقى صفعة أخرى مفاجئة، نحن أمة واحدة ولكن لم نتفق. لم نلتق لنبحث ونتحاور ونستخلص العبرة وليسائل بعضنا بعضا : لماذا لا نتفق فنكون كالجسد الواحد بالفعل لا بمجرد القول؟! ولاسيما ومقومات الوحدة متعددة ومترسخة ومتجذرة، وكيف توحّد غيرنا وهم من أجناس شتى، ومنازعهم متعددة، وألسنتهم مختلفة؟! فهل مصالحهم العامة التي وحدتهم أقوى من مصالحنا التي فرقتنا؟! إنها المفارقة الغريبة العجيبة، بلالدرس الصعب المستعصي على الفهم، لأن الفكر كَلَّ، والفهم ضل وتاه في الاحتمالات والتوقعات، وعلاه صدأ الملابسات بعد أن غابت عنه المؤانسات…
فهل نسلي أنفسنا بالوهم فَنُرَدِّدُ قول الشاعر القديم الذي جثم عليه الشعور بالإحباط فرام التخفيف عن معاناته بالتمني المستحيل، لأنه من لحم ودم، وليس من حجر ومحكوم عليه بالإحساس والوعي الشقي شاء أم أبى، فراح يحدث نفسه حديث المراوح بين اليأس والأمل، ويحاول الهروب من الواقع ولكنه لا يستطيع لأنه بشر وليس جماداً فاقداً للإحساس، ولا غائباً عن الوعي :
ما أَطْيَبَ العَيْشَ لَوْ أَنَّ الْفَتَى حَجَرٌ
تَنْبُو الحَوَادِثُ عَنْهُ وهو مَلْمُومُُ!!
فمتى يطيب عيشنا؟ ومتى نتفق؟ وكيف نتوحد ونحن أمة موحدة أصلا؟ وإلى متى تتوالى الدروس دون استخلاص العبرة؟ وما هو السبيل إلى لمّ شتاتنا ورصّ صفوفنا؟ وتوحيد كلمتنا، بل كلماتناوتقريب مواقفنا بعضها من بعض؟ ونحن نعلم أن الوحدة قوة، والاختلاف ضعف، ونعي بأن الاتحاد تماسك وتلاحم، وبأن التباعد تشتت يؤدي إلى التشرذم والوهن،ومن هان على نفسه هان على غيره، ومن عز على نفسه عز على غيره.
ألا إن العزة كنز يُعض عليه بالنواجد، وهو الرأس مال الذي لا يفنى،وقد جمع الله الخالق عز وجل العزة من أطرافها مصداقاً لقوله تعالى : {من كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعاَ}. وبذلك حدد طريقها ورسم سبيلها بحيث لا سبيل ولا طريق غيره لتحقيق هذا المكسب الرباني، ولكنه ألبس طائفة من عباده شيئا من هذا اللباس لأنهم اختاروا ذلك الطريق، طريق العزة، فقال وهو أصدق القائلين: {وللَّهِ العِزَّةُ ولرسُولِه وللمومِنِين}.