كانت المبّردات تطحن الهواء العليل طحناً فتقذفه من فتحاتها ومنافذها المشبكة هواءً نسيمياً عليلاً بارداً وسط هجير الظهيرة وهي تملأ بصوتها كالطاحونة القديمة ـ جوّ المسجد ضجيجاً وصخباً .
فما أن أنهيت من صلاة تحية المسجد حتى ألفيت بقرب مني شاباً كريماً يحتضن القرآن ويتلوه في سرّه ولعله كان يحفظ بعض آياته .
وكان المصحف الشريف موضوعاً على ساقيه بشكل وهو يجلس القرفصاء، ولم أشاء أن أفاجئه بخطأ بل بقبيح ما يفعله، ومالا يليق بكتاب الله العظيم ممسكاً به بهذه الوضعية، وأردت أن أستدرجه إلى حديث ذي أهمية خاصة ومهم جداً في الوقت ذاته، ولذلك ما أن انتهى من تلاوته وقام ليضعه في الرّف المخصص له في مكتبة المسجد الصغيرة، ودنا مني شيئاً قليلاً حتى طرحت عليه هذا السؤال بهذه الصيغة قائلاً : كيف تقرأ القرآن؟
قال : أحبُّ أن أقرأه مجوّداً .
فلم يفهم مرادي وقصدي فأعدت عليه سؤالي قائلاً :
إذا سألك أحدهم ما طريقة قراءتك للقرآن الكريم ؛ فماذا تجيب؟
قال : أقرأ لأحفظ بعض السور وبعض الآيات .. وقد حفظتها فعلاً حتى الآن !
هنا اضطررت أن أدير الحديث معه بشكل آخر؛ فقلت :
حبّذا لو تقرأ القرآن على أسس وقواعد فنّ التجويد .
قال : لا أعرف هذه الطريقة .
قلت : إنه سهلٌ، فلو اطلعت على كتاب منه فلعلك تفهم وتتذوق ثم تطبق اكثر قواعده وليبقى الباقي فستلّمُ به على مهلك كلّما استمعت إلى تلاوة القرّاء المجودين المشاهير عبر قنوات الإذاعات والتلفزيون .
قال – مؤيداً وموافقاً- :
ذلك صحيح حقاً !
ثم أضفت قائلاً :
يا أخي الكريم إقرأ القرآن بتدبر وتفكر، وليكن لك منه كل يوم حصة خاصة ؛ تقرأه لنفسك . وانظر ماذا يقول لك القرآن؟ وبماذا يأمرك وينهاك؟ أو ماذا يطلب منك من تكاليف وفروض ؛ علماً وفهماً وخلقاً وذوقاً وعبادة ومعاملة وإيماناً ويقيناً .
فلقد كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين -ذلك الرعيل الأول- كما قال وبيّن سيدنا عثمان بن عفان ] : >كنا نقرأ عشر آيات فنفهمها علماً وعملاً ثم ننتقل إلى عشر آيات أخر < .. وهكذا !
نعم هكذا كانوا يقرأون القرآن، يقرأونه للعلم والعمل ؛ لا للأجر والثواب فقط، أو للختمة فقط أو للحفظ فقط كما نفعله نحن اليوم غالباً ويكاد يكون طابع عصرنا وجيلنا ـ إذ لم ينزل القرآن بل ولم يجئ لمثل هذه المقاصد والغايات المجردة فقط كما يفعله المسلمون أو أكثرهم في هذا العصر . بل لقد جاء ونزل ليكون منهاجاً عملياً للحياة وبرنامجاً فعلياً للعمل التنفيذي حتى يكون المسلم وكأنه هو نفسه سور وآيات قرآنية تدب وتتحرك في مناكب الأرض أي نماذج قرآنية متحركة فوق أديم الأرض أسوة حسنة وقدوة طيّبة .
ولئن أنسى فلا أنس إذ قرأت يوماً شيئاً من حياة شاعر الإسلام العظيم المعاصر، “محمد إقبال” صنّاجة الحضارة الإسلامية الخالدة .. إذ يقول – متحدّثاً عن ذكريات عهد طفولته وصباه مبيّناً بعض العوامل القوية والمواقف الكريمة التي أثرت في تكوين شخصيته المرموقة قائلاً :
كنت كل يوم أقرأ بعد صلاة الفجر آيات من القرآن الكريم وكان والدي -كلما رآني – يسألني هذا السؤال : ماذا تقرأ؟ فأقول له : أقرا القرآن . ولا أزيد ولا هو يزيد . حتى جاء يوم لا أنساه فلقد كان لكلامه ذلك وقع سحري عجيب في نفسي ما جعلني أنظر إلى القرآن بنظرة جديدة خاصة قلّبت حياتي رأساً على عقب . فقد قال لي -بعد ما طرح عليَّ نفس السؤال التقليدي اليومي- فأجبته بنفس الجواب المعهود كل مرّة . ثم قال : أنظر يا بُنَّي ! أريدك أن تقرأ القرآن وكأنه نزل عليك أنت !
فكانت هذه الكلمة تفعل فعل البُراق حيث صعد بروحي إلى أعالي قاصية من أجواء النور والروحانية فقد تلقيت هذه العبارة بأروع ما يمكن وأعظم أثراً، فكانت سر مفتاح من مفاتيح شخصيتي منذ ذلك اليوم.
وفي عصرنا أضاء أستاذ خبير آخر في فنّ تلّقي القراءة وهو “سعيد النورسي” أحد أقطاب دعاة العصر البارزين، عندما يتحدث في فترة من مراحل حياته العنيفة فوجد كتاباً للشيخ عبد القادر الكيلاني وأغلب ظني إنه فتوح الغيب< .
قال : فقرأته فإذا به يخاطبني أنا قائلاً : أنت في دار الحكمة فاطلب طبيباً يداويك !
فقلت : كن أنت طبيبي .
وهكذا قرأت الكتاب وكأنه مرشدي وشيخي ودليلي .
أجل هكذا ينبغي أن يقرأ المسلم المعاصر عندما يريد أن يقرأ وعندما يريد أن يكون خادماً غيوراً جسوراً أميناً صادقاً لدينه ولأمة رسوله الكريم محمد ، لعل الله سبحانه يرضى عنه وهو أقصى أمانيه في حياة الدنيا وأبهج أحلامه كلها ليخرج منها عبداً مقبولاً، بل ومحبوباً مشهوراً في السماوات .