أخيرا هوى النجم، وترجل الفارس، ولكن في أشرف صورة، وأجمل رحلة سفر.
لقد رحل الشيخ المجاهد، والمقاتل المقدام، والخطيب المفوه، والمربي القدوة: أحمد ياسين، الجبل الذي تندك تحت صلابة مواقفه الإيمانية كل الجبال، والقائد الذي تسقط أمام قوته وحكمته كل العروش المهترئة، والكراسي المزورة.
لقد رحل شيخ فلسطين المغتصبة وقائدها في زمن عز فيه القادة، ورحل الرجل في زمن قل فيه الرجال، وندر وجود الأبطال.
إن حياته كانت مليئة بالدروس، كما كانت موته تحمل العديد من الرسائل لمن يهمه أمر هذه الأمة التي تكالب عليها الظالمون، واجتمع عليها اليهود والنصارى أجمعون، وإن من دروسه ورسائله مايلي:
1- معنى الرجولة :
ذلك أن الشيخ -رحمه الله- لم يكن قوي البنية، مفتول العضلات، طويل القامة، عريض المنكبين. بمعنى أنه لم يكن ذا بسطة في الجسم، فهو -رحمه الله- رجل نحيف ضعيف مقعد مشلول لايتحرك فيه إلا رأسه، ولكنه كان رجل المبادئ الحقة، والمواقف الصلبة، كان ذا قلب رباني كبير، وعقل رشيد، ورأي حصيف، لم يكن ممن تخيفهم التهديدات، أو ترعبهم التوعدات والملاحقات، وتلك -لعمري- علامات الرجولة الحقيقية، وأصحابها هم الرجال الذين يعول عليهم! وكم كان سيدنا عمر حكيما وموفقا حين قال لمجموعة من إخوانه الصحابة رضي الله عنهم : تمنوا، فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبا أنفقه في سبيل الله، ثم قال عمر: تمنوا، فقال رجل آخر: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة لؤلؤا وزبرجدا وجوهرا أنفقه في سبيل الله، ثم قال عمر: تمنوا، فقالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المومنين؟ فقال عمر: ولكني أتمنى رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة أستعين بهم على إعلاء كلمة الله!! ولقد كان الشيخ أحمد -رحمه الله- ممن يستعان بهم على نصرة دين الله، وإعلاء كلمة الله، فقد كان “رجلا”، وكانت أمنيته أن يرضى الله عنه، قال تعالى : {من المومنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} ولم يقل القرآن من المومنين أشخاص أو أفراد أو جماعة. إنما قال: من المومنين رجال.. لأن الرجولة -بمعناها الحقيقي- لها مذاق خاص، ونكهة عجيبة، ووقع فريد في النفس وعلى القلب، فمتى يولد فينا الرجال؟ أولئك الذين يصدقون الله فيصدقهم الله، متى يكبر فينا الأبطال؟ ومتى يوجد فينا صناع التاريخ؟ إن غدا لناظره لقريب. و{ألا إن نصر الله قريب}.
2- طعم الشهادة:
إن الشهادة وسام رباني، وتاج إلهي، لايعطاه إلا من يستحقه، وليس كل من طلب الشهادة ينالها، لأنه ليس كل من طلب الشهادة يستحقها، إذ الشهادة اصطفاء واختيار، قال تعالى: {ويتخذ منكم شهداء} فالله يكرم بالشهادة أحبابه، ويخص بها أولياءه، ومن طلبها بصدق نالها ولو على فراشه، وقد نالها سيدنا عمر في محرابه، كما نالها سيدنا عثمان في بيته.
حاصر بعض الجند مدججين بالسلاح منزل الإمام عز الدين بن عبد السلام، فلما رآهم أحد أولاد العز دخل عليه باكيا، وهو يرى أن ساعة والده قد حانت، وأن أجله قد دنا، فسأله والده ما الأمر؟ فأخبره بحصار الجند المنزل وحالتهم، فقال له -رحمه الله- لا تقلق على أبيك يا بني، فأنا لم أبلغ بعد درجة الشهادة، والله يقول “ويتخذ منكم شهداء” ونيل صاحبنا رحمه الله الشهادة دليل على أنه كان يطلبها بصدق، وقد كان يردد باستمرار: نحن طلاب شهادة، وكان صادقا في ذلك، فلم يكن في عمله متخفيا، وإنما كان يعمل في الظاهر، ويتحرك في واضحة النهار، في تحد إيماني رائع لجبروت أحفاد القردة والخنازير، ولم يكن في الصفوف الخلفية يوما، وهو الذي خبر السجون وعذابها، وعرف الجلادين وجبروتهم، وهل يصلح للقيادة إلا هؤلاء؟
3- طريق الشهادة:
إن من أهم طرق الشهادة: الربانيةُ ، فحينما يكون العبد ربانيا يطلب الشهادة بصدق، ويرتبط بالله بصدق، فلا تلفيه إلا ذاكرا لله، أو قارئا للقرءان، أو قائما في صلاة، أو مجاهدا في معركة، فاعلم أنه يطلب الشهادة من أعماق قلبه، وهذا صاحبنا الشيخ -رحمه الله- كان من هذا النوع، فقد استشهد بعد أدائه صلاة الصبح في المسجد مع المسلمين، وهو المقعد المشلول الذي لايتحرك إلا رأسه، وفي ذلك دليل على ربانيته وصدقه.
وإلى غيره أقول: إن هذه الأمة لن تنتصر مادامت تغط في نومها العميق، وما لم تقم الأمة لصلاة الصبح فهي نائمة، ومادامت نائمة فهي منهزمة، ولن ننتصر إلا حين نستيقظ، فإذا استيقظنا فنحن على درب الشهادة سائرون، وعلى طريق النصر ماضون.
4- استفتاء عام:
لقد بكى الشيخَ الفقيدَ ما لا يحصى من الخلائق في المشرق والمغرب، وهو لم يكن يملك جاها ولا سلطانا ولا مالا. ولكنه كان صادقا مع الله فأحبوه لذلك، فقد يخاف الناس المنافقين لجبروتهم، والحكام لقهرهم وبطشهم.. ولكنهم لايحبونهم، أما الشيخ أحمد ياسين فقد وضع الله له القبول في الأرض، فأحبه أهلها بعد أن أحبه أهل السماء.
ولقد كانت موته وجنازته استفتاء قالت فيه الأمة كلمتها، وأبانت عما تكنه قلوبها: نحن أمة نحب الصادقين من قوادنا، ونبكي الصالحين من زعمائنا، نحن أمة تعرف معنى الجهاد ومعنى الإرهاب، وتعرف معنى المقاومة ومعنى الاحتلال.
لقد قالت الأمة بعيونها الباكية، وقلوبها الدامية: إذا كان الشيخ الشهيد إرهابيا -بالمعنى الأمريكي- فكلنا إرهابيون، وصفعت بذلك صغير أمريكا وأذنابه في كل مكان.
لتكتب أمريكا عن الإرهاب ما تشاء، ولتحكم علينا بما تشاء، فلن يغير ذلك من حقيقة الأمر شيئا، وسيبقى الليل ليلا والنهار نهارا، وإنما الأيام دول، “وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} {وإن جندنا لهم الغالبون} {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون}.