مقدمــــة
انصب الاهتمام، في البلاد العربية والإسلامية، في العقد الأخير، على النظر ومدارسة “مشروع” أو مشاريع التنمية المقترحة بكل أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وتركز الحديث في ذلك حول محورية الدور النسائي المنشود، الذي أنيط بالمرأة والذي يمكن أن تؤديه بتفوق، والذي صارت تتطلع إليه القوى الفاعلة بكل أطيافها وألوانها السياسية والاجتماعية والجمعوية.
وحق الوقوف ها هنا، مع موضوع التنمية عامة، والنظر في دور المرأة فيه خاصة، انطلاقا من الوقائع الإسلامية وبتوجيه من ذاتنا وهويتنا الحضارية. ليتأكد في النهاية أنه وحدها المرأة المسلمة مؤهلة لخوض معارك التنمية من موقع القيم بنجاح، لأنها أدت نفس المهمة بامتياز في صدر الإسلام. كما سيتأكد أن الحديث عن انفراد الرجل بالبناء في المجتمع الإسلامي ادعاء عار عن الدليل، ومجرد موضوع للاستهلاك والإهلاك، وللتخفيف من معاناة النفس من وطأة الإرهاب الفكري الذي يمارسه الغرب وعملاؤه في البلاد العربية والإسلامية، لأن المساهمة النسائية في الإسلام كانت فعالة وطالت الاجتماع والاقتصاد والثقافة والتعليم والسياسة وحتى الحروب، كما سيتبين لاحقا.
كما سيتضح أيضا أن الحديث عن عزل المرأة في المجتمع الإسلامي، جريمة فكرية وتصدير للأزمة:
- لأنها تخفي الحقائق كما كانت في العهد النبوي الزاهر.
- ولأنها تخفي أيضا الحقائق داخل الهيئات السياسية والاجتماعية والاقتصادية -التي وضعت مناهجها ومخططاتها وفق ما استوردته من الغرب- حيث لا تحتل المرأة سوى دور الديكور أو دور المصوت والمصفق، لتبقى دار لقمان على حالها بأيدي رجال رهنوا كل شيء للخارج من موارد وخيرات بلدانهم.
- إن المنهج الاجتماعي إذ اختل، بانفراد أحد قطبي المجتمع -النساء والرجال- بالتفكير والتنظير والتأطير والتدبير، اختل البناء كله، لذلك لا بد من السعي الجماعي الجاد نحو ميثاق على منهاج النبوة بمساهمة رافديه: الرجال والنساء.
ما التنمية؟
إذا تباينت التوجهات والتنظيرات حول مفهوم التنمية وخلفياتها الحضارية والثقافية، فإنه مع ذلك يمكن تلمس خيط رفيع ودقيق لها، شبه مشترك بينها، وهو أن المقصود بالتنمية في نهاية المطاف ليس غير تغيير الواقع المتأزم، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا وفنيا وأخلاقيا … بتأهيل الإنسان والرقي به نحو التقدم والازدهار، والدفع به إلى الأحسن بتحرير المبادرات الفردية والجماعية للإبداع والبناء الحقيقي في كل المجالات.
- وإذا كان المقصد من التنمية، تنمية الإنسان وترقيته -بالرفع من مستوى أدائه الخلقي في كل القطاعات، بأن يصطبغ عطاؤه في كل المجالات -اقتصادية كانت أو سياسية أو فكرية أو أخلاقية-، ببعد أخلاقي وبالتزام أدبي مع الله تعالى ثم اتجاه المجتمع والتاريخ، فليست التنمية بمفهومها الشامل هذا، شيئا آخر غير جزء يسير مما عرفه المسلمون باسم “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وهي المهمة التي تهدف تقويم الإنسان فكريا وسلوكيا في المجالات السالف ذكرها، بما يخدم مصالحه في الحال والمآل.
يقول الشيخ محمد رشيد رضا موضحا معنى “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” بقوله: (المعروفُ ما تعرف العقول السليمة حُسنه وترتاح القلوب الطاهرة له لنفعه، وموافقته للفطرة والمصلحة بحيث لا يستطيع العاقل والمنصف السليم الفطرة أن يرده أو يعترض عليه إذا ورد الشرع به. والمنكَرُ ما تنكره العقول السليمة وتَنْفُر منه القلوب وتأباه على الوجه المذكور)(1).
- لا يمكن أن يكون الأساس من التنمية شيئا خارجا عما تعرف العقول السليمة حُسنه وترتاح القلوب الطاهرة له لنفعه، كما يستحيل في أذهان العقلاء أن تخرج التنمية عن موافقة الفطرة والمصلحة الحقيقية. كما أن العمل في الاتجاه المخالف للتنمية لا يمكن سوى أن يمثل ما تنكره العقول السليمة وتنفر منه القلوب وتأباه.
وإذا كانت التنمية بهذا المفهوم الشامل، على هذا النحو، فلا مندوحة عن تقديم موجز عن أهم إسهامات المرأة المسلمة فيها أثناء البعثة وبعدها، إجلاء للصورة الحقيقية التي متع الإسلام بها المرأة، خلاف الأديان الأخرى كلها، وخلاف التصورات المشبوهة التي تصاغ وتُعرض للإسلام -رغما عن الإسلام طبعا-، من أعدائه أحيانا ومن أدعيائه أحيانا أخرى باسم الإسلام.
المرأة والتنمية في المجتمع الإسلامي
أ- الإنسان محور التنمية:
إن أزمة التنمية كما تمليها معظم التوجهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لا تحل مشكلة التنمية. لعدم انطلاقها من تنمية الإنسان نفسه. في وقت يلزم أن يكون الإنسان فيه محور التغيير.
إن الإسلام، لم يغير الواقع الاقتصادي والاجتماعي فحسب، وإنما عمل على تغيير الإنسان نفسه. ما يبين كمال الشريعة الربانية -بمقاصدها التغييرية العميقة في الإنسان-، وقصور القوانين الوضعية. من ثمة أخرج الإسلام الناس من أمة أمية، تعيش الجهل والفساد الأخلاقي وتنتجه، إلى أمة تساهم في الحضارة العالمية. إن السبب في ذلك هو أن الإسلام ربط الإنسان بالله تعالى، يحاسبه على الصغيرة والكبيرة قبل أن تحاسبه الدولة والقوانين والمسؤولون. فالموظف في الإدارة، والمعلم في التعليم، والمسؤول في مسؤوليته كيفما كانت، إذا استشعر كل واحد واستخضر مراقبة الله تعالى في عمله، آنذاك يمكن تحقيق التنمية في مختلف المجالات. لأنها تكون محققة في النفس أولا، يقول تعالى: {إن الله لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}(الرعد : 11).
ب- عموم الخطاب الشرعي يشمل المرأة والرجـــل :
*- قال الإمام ابن حزم في “الإحكام”: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الرجال والنساء بعثا مستويا، وكان خطاب الله تعالى وخطاب نبيه عليه السلام، للرجال والنساء خطابا واحدا، لم يجز أن يخص بشيء من ذلك الرجال دون النساء، إلا بنص جلي أو إجماع.
فإن قالوا: فأوجِبوا الجهادَ فرضا على النساء، قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: لولا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة: “إذا استأذنته في الجهاد”، لكنَّ أفضل الجهاد حج مبرور، لكان الجهاد عليهن فرضا. ولكن بهذا الحديث علمنا أن الجهاد على النساء ندب لا فرض، لأنه عليه السلام لم ينهها عن ذلك، ولكن أخبرها أن الحج لهن أفضل منه. ومما يبين صحة قولنا أن عائشة -وهي حجة في اللغة- لما سمعت الأمر بالجهاد، قدرت أن النساء يدخلن في ذلك الوجوب،حتى بين النبي صلى الله عليه وسلم لها أنه عليهن ندب لا فرض)(2).
إن مهمة التغيير والتنمية، أمر لا يقتصر على الرجال في الخطاب القرآني، بل تشمل الجنسين معا، قال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}(التوبة : 71)، كما عم خطاب المولى سبحانه الأمة جمعاء نساء ورجالا حين قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}(آل عمران : 110).
وهذا الفهم هو الذي جعل علماء الإسلام يؤكدون أن المرأة ليست خارجة عن هذا الخطاب الرباني، بل هي مأمورة بالانخراط في العملية التغييرية التنموية، أو ما يسمى “بالحسبة” وهي عبارة شاملة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يقول صاحب “الإحياء”، رحمه الله تعالى: (الحسبة هي عبارة شاملة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر … المحتسب له شروط: أن يكون مكلفا، مسلما، قادرا … ويدخل فيه آحاد الرعايا وإن لم يكونوا مأذونين … والمرأة)(3).
التسليم والإذعان والانصياع التام لهذا المنطق القرآني، هو الذي أنتج وخرَّج المرأة الجديدة -التي كانت، قبل الإسلام، مستهلكة في قضايا لا علاقة لها بالحضارة: امرأة تُقتل وتباع وتشترى وتهان…امرأة عار على نفسها، قبل أن تكون عارا على غيرها- التي خرَجت تسهم في العملية التغييرية بنفسها، بانخراطها الكلي في كل القطاعات والميادين، كما تؤكده الوقائع اللاحقة التي لا يرقى إليها شك، للتدليل على أن الميادين التي دونها قساوة وصعوبة، هي بالنسبة للمرأة أهون للمساهمة، ومن باب أولى أن تشارك وتؤكد حضورها فيها.
وليس هناك أحسن للتنمية من مشاركة المرأة في القرار العلمي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي …
بل قد تبلغ التنمية ذروتها بإحساس المجتمع بضرورة إسهام المرأة في الاستشارات السياسية وغير السياسية، وبانخراطها الكلي في العملية السياسية، ليس بالاستشارة فقط، وإنما بالبيعة والحكم المباشر، بل حتى بخوض المعارك المسلحة من أجل تنمية ذات هوية وانتماء حضاري لائق، كما تؤكده الإثباتات التي سنتعرض لها في العدد القادم بحول الله.
——
1 – “تفسير المنار”، الشيخ محمد رشيد رضا:9/227.
2- “الإحكام في أصول الأحكام”: ابن حزم، تحقيق: الشيخ أحمد محمد شاكر، قدم له: الدكتور إحسان عباس، منشورات دار الآفاق الجديدة بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ 1983م: 3/81.
3- “إحياء علوم الدين”، حجة الإسلام أبو حامد الغزالي:2/474.