قضيت يوما بليلته في إسطنبول جعل الله فيه البركة والزكاة إذ كان بمثابة أسبوع أو أكثر لما شاهدت وزرت وجلت وسمعت ولقيت.. وقد أكرمني الله بزيارة مسجد الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري وبصلاة العشاء فيه، وكانت صلاة خاشعة مفعمة بروحانية عظيمة وقد اغرورقت عيني بالدموع واقشعر بدني اقشعرار خشوع وأنا أقف أمام ضريح الصحابي الأنصاري أترحم عليه وأسأل الله أن يجزيه عن المسلمين خير الجزاء ، وتمثلته وأم أيوب رضي الله عنهما وهما يجففان الماء من أرض بيتهما خوفا من أن تتسرب نقطة منه فتؤذي ضيفهما سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم الذي آثر أن يسكن في الغرفة الأرضية من بيت أبي أيوب .. كما تخيلته وهو يستميت على مشارف القسطنطينية ليموت هنالك وأبى الله إلا أن يدفن داخلها ليكون أول فاتح لها وهو ميت، وفي ذلك دعوة متواصلة للمسلمين لينجزوا الفتح .
وينسب للخليفة الثالث سيدنا عثمان رضي الله عنه أنه قال : تُفتح القسطنطينية من الأندلس أي باختراق القارة الأوربية للعودة إلى دمشق عبر فتح القسطنطينية .. وكان مشروع موسى بن نصير وقائده طارق بن زياد تحقيق استراتيجية سيدنا عثمان ففتحا الأندلس، ولولا عزلهما لتحقق على أيديهما ذلك أو بعضه.
وقد كانت الخلافة العثمانية بركة ورحمة على المسلمين، وقد تحقق للمسلمين في ظلها كثير من الخير ، وما أصابها لم يكن بدعا في سنن الله فقد أصيبت أمم ودول قبلها، وتلك الأيام نداولها بين الناس… فالرجل المريض أي الدولة العثمانية هو نفس الرجل المريض الذي يجب أن يطلق على الدولة الأموية والدولة العباسية والدول الإسلامية الأخرى مثلما تطلق على ممالك الفراعنة والتبابعة والحميريين والإغريق والرومان وهو نفس الهرم و المرض الذي أصاب الدولة الإسبانية والبرتغالية والبريطانية والروسيةالآن وهو ما ينتظر أمريكا… ومن لطف الله أن الرجل المريض إن صدق هذا الوصف على الدولة فلم ولن يصدق على الشعب التركي، فقد أرادت دول الغرب المتحكِّمة أن تنتقل الدولة التركية من مرض إلى مرض آخر عندما فرضوا على الحكم العلماني المعادي للإسلام ” إلغاء الخلافة ” والشريعة الإسلامية ، واللغة العربية ، وأضاف النظام الأتاتركي الجديد إلغاء العمامة والطربوش والنقاب وكل ما يمت إلى المجتمع الإسلامي بصلة ظانا منه أن ذلك يقفز بالشعب التركي إلى مصاف الدول الأوربية المتقدمة، وقد استحل النظام لنفسه اتخاذ كافة الوسائل والإجراءات وقوانين الغاب لقمع أي مظهر إسلامي في المظهر أو المخبر أو الدين أو اللغة أو الأرقام أو الحرف أو الخُلُق لكن لم تمر ثلاثون سنة حتى سمع الأتراك المؤذنين يرفعون أصواتهم الجميلة بالأذان باللغة العربية فوق المآذن الشامخة الراسية والمطلة على أوربا وآسيا… فكان يوما مشهودا جديرا بالعالم الإسلامي أن يتخذه عيدا لهم يحتفلون به… وقد دفع “عدنان مندريس” حياته ثمنا لذلك… لكن الأتراك خلدوا اسم هذا الرجل فبنوا له ضريحا كبيرا في وسط إسطنبول وأطلقوا عليه ” ضريح شهيد الآذان ” فمن يمر بمحاذاته راكبا أو راجلا أو يقف تلقاءه يترحم عليه ويقرأ الفاتحة… وقد شاء الله أن أزور إسطنبول بعد نحو نصف قرن من استشهاد شهيد الأذان لأقف على إسلام تركيا العلمانية . فهذه الدولة التي تمنع سترة رأس الفتاة في المدرسة والجامعة الحكومية والإدارات الرسمية هي نفسها التي ترعى الشؤون الدينية لجالياتها في الخارج فالأحوال الدينية لهذه الجاليات في القارات المختلفة أحسن بكثير من الدول العربية والإسلامية مجتمعة ، وقد شاهدنا ذلك في أوربا ، ومثل هذه الرعاية نلمسها في تركيا العلمانية نفسها ففي داخل تركيا أكثر من سبعمائة مدرسة لتخريج الأئمة والوعاظ . وقد زرت مدرسة قرآنية علمية تنفق عليها الدولة العلمانية نفسها التي تمنع سترة الرأس في إداراتها ومدارسها وجامعاتها الرسمية . فرأيت مئات الطلاب يحفظون القرآن الكريم متحلقين على شيوخهم يدرسون عليهم العلوم الإسلامية إعدادا لهم ليكونوا أئمة ووعاظا. والمدرسة التي زرتها هي واحدة من مئات أخرى في تركيا وكلها تابعة لمديرية أو رئاسة الشؤون الدينية ، وهناك مدارس حرة لا تحصى . تتبع جمعيات تركية مدنية وزوايا صوفية .
إن الدولة التركية علمانية بالمعنى الغربي السائد وهي مناهضة الإسلام ومحاربة الإسلام ولكنها في الحقيقة إسلامية تخدم الإسلام لشعبها المسلم أكثر بكثير من دول إسلامية بمقتضى الدستور وبالادعاءات المؤكدة والمتكررة إذ بعض هذه البلاد أشد على الإسلام وعلى شريعة الإسلام وأخلاق الإسلام وكتاب الإسلام من تركياO
فأين في هذه البلاد الإسلامية دستوريا ذلك العدد الهائل لمعاهد إعداد الأئمة والوعاظ وحفاظ القرآن باستثناء مصر التي حافظت على الأزهر ومنابعه الكثيرة.
فليت تلك الدول الإسلامية دستوريا كانت علمانية الدستور وترعى الإسلام مثلما تفعل تركيا العلمانية.
لذلك يحق القول إن دولنا تنقسم حسب السلوك والعمل : علمانية إسلامية ـ وإسلامية علمانية .
والعجب أنه كلما اقتربت العلمانية التركية من الإسلام تبتعد بعض دولنا الإسلامية دستوريا وتشدقا إلى العلمانية المتطرفة الإرهابية ودَعُونا من الادعاءات فالمقياس هو الممارسة والتطبيق والنتائج ،والمُعَوَّلُ على ما نرى لا على ما نسمع .