كثير من الناس يأتون إلى هذه الدنيا ويذهبون ولا يذكرهم الناس والأحبة إلا قليلا، ذلك أنهم لم يتركوا في حياتهم ما يذكرهم به الناس، ولا ما يخلدون به أنفسهم، ولكن شيخنا الفقيد الفقيه سيدي أحمد الحجامي -تغمده الله برحمته وواسع مغفرته -كان من الرجال الفقهاء الذين تركوا من الذكر الطيب والأثر الجليل في مجال مدارسة القرآن والفقه ما سنظل نذكره به إلى زمن بعيد.
ويكفي أن أستحضر تلك الجلسات العلمية معه ولقاءاتنا الفقهية يوم كانت تجمعنا به تلك الدراسات القرآنية والحديثية والمساجلات الفقهية، التي كنا نسعى إليها في وقتها، ونحرص على أن يحضر معنا فيها فقيهنا الفقيد سيدي أحمد لما كان يذكيه فينا من حماس ونلمسه في ثقافته الفقهية من استنتاجات وإسهامات كان يتفرد في إبرازها والوقوف عندها. استشفافا من الآيات البينات التي كان يحب أن يغوص في أعماق معانيها ويسبر غورها ويتأمل فيها ليستنتج ما فيها من أحكام وما توحي به من أسرار وما تهدف إليه من مقاصد قد تتم الغفلة عنها من لدن الدارسين.
إنه الاحساس الصادق والإيمان العميق بأن أسرار القرآن وحقائقه وعجائبه لا تنقضي، وعطاءاته وإمداداته وإفاداته تتجدد عبر العصور والأزمان، وبأنه يفيض عطاء ولا يخلق من كثرة المدارسة.
هذا المنهج التأملي في التعامل مع القرآن والتراث، مما كان يمتاز به الفقيد، ويحرص على لفت الانتباه إليه، وكانه يستحضر قول الرسول: ” أثيروا القرآن، فإن فيه خبر الأولين والآخرين، ومن أراد العلم فليثوِّرالقرآن”. وهو منهج نقر بفائدته وأهميته، والذي هو ثمرة عوامل عديدة من أجلها وأهمها -وهذا مما كنت أعزه فيه وأقدره- ضرورة استعمال العقل وإبداء الرأي الحصيف، فيما نقرأه للقدماء، وما قدموه من عطاءات وتفسيرات لكلام الله تعالى، في تبجيل لهم وتقدير لجهودهم واستنارة بفهمهم دون جمود أو تقليد.
هذه الخاصية التي استحضرها عنه رحمه ا لله تعالى، غابت عن عدد من فقهائنا، وافتقدناها في دراستنا لتراثنا الاسلامي، وفي مؤسساتنا الاسلامية ومعاهدنا الدينية التي استطابت السرد والاستظهار والانكفاء والركون إلى فهوم الآخرين. وكأننا أهل إحالة لا نعيش زماننا وإنما نحيا بعقول الآخرين.
وتمة خاصية أخرى عرف بها فقيدنا، تلك هي الايمان الصادق والانقياد والخضوع، والعبادة الخالصة مع تقوى وعفة ونقاء، وانصراف عن ملذات الدنيا وشهواتها في غير ما شدة أو غلو أو تحريم ما أحل الله. إنهما العلم المقرون بالايمان كان يتحلى بهما فقيدنا. فكان بذلك من العالمين المومنين الذين أخبر الله تعالى عنهم بأنه يرفع درجاتهم في الدنيا بعلو المنزلة وحسن الذكر، وفي الآخرة بعلو المنزلة في الجنة، وصدق الله تعالى إذ يقول : {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير}.
رحم الله فقيدنا وجازاه خير الجزاء ومنحه في الجنة درجة الصابرين الذين يوفون أجورهم بغير حساب. فقد كان على البلاء صابرا ولنعم الله عليه شاكرا {إنما يوفى الصابرون أجورهم بغير حساب}.