وقفات – خذوا الحكمة….من أفواه العقلاء الصغار…


… كان ذلك الحديث ذا شجون عن قضايا تربوية، فمن الكتب الجديدة المقررة إلى التأليف المدرسي… إلى اكتظاظ الأقسام… إلى تدني المستوى الدراسي عموما… ثم سكت محدثي قليلا كأنه يتذكر حدثا ذا بال وقال : “إن مما يثلج صدري -على مشاكل النظام التربوي الحالي- أنني أجد السلوى في عالم فسيح زاخر بالمتعة وا لنشاط..” بدد ظني المتوثب أن الرجل أضاف :”فبمجرد ما أدخل عالم الفصل حتى أنتقل نقلة مفاجئة مع هذه البراعم الغضة، تلاميذ في عمر الزهور يمارسون على شخصيتي ذلك الجذب الروحي، فإذا المحبة والتآلف زادنا في صحراء ساعات الدرس الشاسعة… ما أروع أن يكون الحب الخيط الرابط بين المدرس وتلاميذه فإذا انقطع الخيط تاه الدليل واضطربت البوصلة! وأروع منه أن المحبة تبدد الشعور بالفتور والملل والتعب وتولد البذل والتضحية… أذكر أننا تدارسنا مرة فيمكون التعبير موضوعا حول عوامل الشغب في المدرسة المغربية، جميع التلاميذ عبروا عن آرائهم في حرية وشجاعة، أجمعوا على أن السلطة المفرطة أو الإهمال الزائد يكمنان وراء الظاهرة، وأن المدرس يجب أن يكون صارما في غير قسوة، لينا في غير ضعف… اعترفوا بأن بعضهم يتعمد استفزاز المدرس حد الانهيار العصبي إذا تطرف في ممارسة سلطته أو أفرط في إهماله أو بدا غير متقن لمادته. سألت بعضهم : وما دلالات انهيار المدرس؟ : قال أحدهم : يتلعثم لسانه وتكثر حركاته وإشاراته ويتغير لونه… فننتشي إذ نحقق بغيتنا. أضفت : متجاهلا : ” ومن هو الرديء عندكم؟ : قال أحدهم : هو الذي يشتمنا ويسب ذوينا.. وهذا بالضبط هو الذي يستهدفه انتقامنا “تذكرت أثناء هذا الحوار الثري رأي ابن خلدون شيخ المربين، في أن القهر يذهب بالنشاط ويفسد المعاني الإنسانية في الأشخاص والجماعات والأمم.. كنت أحاور هؤلاء التلاميذ وأناأستعرض بدهيا رأي بعض رجال التربية، وأحدث نفسي بأن هؤلاء اليافعين منظرون للتربية بالفطرة ناطقون بالحكمة… إنهم يريدون الكرامة ويأنفون من الذل على ـ رأي (لوك) الأنجليزي ـ إذ أن الشعور بالكرامة والخجل من الذل يحرك في نفوس التلاميذ المبادئ الصحيحة التي تدفع بهم إلى الخير. إنهم بالفطرة تواقون إلى المعاني الجميلة. قالت إحدى التلميذات : “بعض الدروس تصبح صخرة صماء بما  نكابده من ملل ورغبة في النوم” وكأني بالتلميذة النجيبة تشير دون علم إلى طريقة جاحظية في التأليف والتعلم… وإلى ما أجمع عليه علماء التربية حول أن التعليم يجب أن يُقدم بطريقة مفرحة حتى يكون الدرس تسلية لا عذابا.

استأذنت في الحديث تلميذةٌ تتألق عيناها ذكاءً، وقالت: “معذرة، لا يجب أن نلقي اللوم دائما على الأستاذ فهناك رُفقة الشارع السيئة وهناك البيت المفكك أو المنحل، وهناك وسائل الإعلام التي ميعت التربية وهدمت الأخلاق… ثم ألا ترون ما فعل فينا فرط التدليل فتوفرت لنا الضروريات والكماليات حتى خلدنا إلى الدعة والخمول؟ وفي الجانب الآخر نجد الفقر الذي ينشب أظافره في أجسام الكثيرين منا… ولا تنسوا النظام التربوي غير المحكم… فأنا شخصيا لا أتبين ما ينتظرني في المستقبل. مثلا: أنا أدرس اليوم مادة الرياضيات باللغة العربية، وغدا سأدرسها في الجامعة بالفرنسية… وقس على ذلك علوما أخرى… فأي وجهة أتبع؟ إن التلميذ يائس يسير في طريق غامض غامض..”.

أضاف الرجل وكأنه يتهيأ ليتم حديثا شيقا : وهكذا تواصل الحديث بيني وبين تلاميذي -يا أختي- كانوا صغارا في أجسامهم كبارا في عقولهم وآمالهم وخطراتهم… وقفوا يصوغون أحلامهم ومشاعرهم جُملا وتراكيب ارتقت تدريجيا من الاضطراب نحو الاستواء… وكان يحضر معنا ـ حضورا قانونياـ زوار شباب أحسستُ في تتبعهم للحوار الشيق كأنهم يفتحون -وهم في بداية حياتهم- صروحا شاهقة ويدخلونها لا وجلين ولا متهيبين، مسترشدين بالحكمة من أفواه العقلاء الصغار… بعد أن أدركوا بعض أسرار النجاح والفشل داخل الصفوف الدراسية.

ذ. أمينة المريني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>