الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.
يعد موضوع الوحدة الفكرية بين المسلمين من موضوعات الساعة التي عني الباحثون والمفكرون بفك إشكالاتها سعيا منهم إلى المساهمة الفعالة للنهوض بالأمة الإسلامية من عثارها، غير أن الملاحظ عن كثير من الدراسات والبحوث أنها نحت منحى التأكيد على أهمية الوحدة الفكرية بين المسلمين من قبيل الاحتفاء بهذه الأهمية، وبيان مزاياها وفضائلها، مما جعل الحديث عن الوحدة ضربا من المثالية الأفلاطوينة.
كما وقع البعض منها في خطأ إعطاء مفهوم عام عائم للوحدة الفكرية بين المسلمين، مغفلة الأسس المنهجية التي قامت عليها وحدة المسلمين على عهد السلف الصالح في القرون الأولى رغم ما سجل التاريخ في هذه الحقبة من مدارس كلامية وسياسية وفقهية مختلفة.
وبناء على هذه المعطيات بات مهما بحث الأسس المنهجية للوحدة الفكرية بين المسلمين، وذلك بمناقشة المفهوم السائد للوحدة مناقشة نقدية فاحصة متوسلة بتراث أمتنا المجيد للوصول إلى أرضية تنظيرية لهذه الأسس، وهو ما يتطلب بحث مقتضيات التأسيس لهذه الوحدة المتمثلة في ضبط المفهوم، ووضع أسس منهجية ناظمة تُتبنّى خلال عملية النشاط الفكري، ثم اقتراح آليات فاعلة لتثبيت هذه الأسس المنهجية في واقع الحركة الفكرية، ويختم بتقديم مقترحات موضوعية للسير بالأمة قدما نحو هذا المفهوم وهذه المقتضيات والآليات.
أهمية الوحدة الفكرية بالنسبة
لوحدة الأمة الإسلامية
إن الفكر هو أساس العمل لأنه “يسبق العمل وليس العمل إلا نتاجا للفكر”(1)، والوحدة الفكرية هي أساس ومنطلق الوحدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية…إلخ لأن السياسة والاقتصاد والاجتماع من غير شك ثمرة أفكار وفلسفات تفاعلت فأثمرت قناعات جسدت على أرضالواقع، ومعظم الانجازات في تاريخ البشرية بدأت بمعتقدات وأفكار وفلسفات وجدت من أحسن إسقاطها على أرض الواقع، وخير دليل على هذا الأمر عمل نبينا محمد عند وصوله إلى المدينة المنورة، فقد وضع وثيقة المدينة التي مثلت أرضية صلبة لوحدة الأمة الإسلامية من خلال الانتماء العقدي وإبقاء الانتماءات الأخرى سارية المفعول كونها لا تتعارض والانتماء الأكبر للأمة. فلا يمكن أن نتكلم عن وحدة سياسية أو اقتصادية قبل الكلام عن وحدة فكرية، وقبل تحديد مفهوم دقيق للوحدة الفكرية.
المفهوم السائد للوحدة الفكرية
لقد سادت مفاهيم لوحدة المسلمين كانت في كثير من الأحيان ـ كما يرى كثير من الباحثين ـ سببا في يأس الكثير من إمكانية تحقيق الوحدة الإسلامية على أرض الواقع. فقد تصورها البعض نسيجا متجانسا ومتشابها، أو سبيكة متجانسة تصهر كل ما تحتها فتختفي الفروقات اختفاء كليا(2). الأمر الذي جعل الكلام عن الوحدة لا يعدو أن يكون نشرا لليأس في أوساط المتفائلين، ونشرا لعقلية الاستقطاب المذهبي في أوساط المتعصبين حتى يصير حزبهم ـ وهوحزب الله في نظرهم ـ هم الغالبون.
ولا شك أن هذا المفهوم الخاطئ للوحدة يكرس الفرقة ويوسع هوتها أكثر مما يبارك الوحدة ويدعو إليها، ذلك لأنه يورث حواجز نفسية صعبة التجاوز، أهمها :
1- الانغلاق على القناعات الذاتية، وتبني النظرة الأحادية المتحيزة المبنية على المقولة المقلوبة : “قولي صواب لا يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ لا يحتمل الصواب” فيصبح مقياس القرب من الوحدة أو البعد عنها مرتبط بمدى تبني الغيرلقناعاتي الذاتية.
2- غلق أبواب الحوار واعتبار الغير ما دام متمسكا بقناعاته لا يريد الوحدة ولا يسعى لها، بل ولا يستحق أن يدرج في أي إطار أو عمل وحدوي، ولعل أبرز ما يمثل هذا التعسف الفكري -في تاريخ الفقه الإسلامي- مذهب من رأى إخراج نفاة القياس كالظاهرية وغيرهم من حظيرة الإجماع، بل وإخراج منكري إجماع من بعد الصحابة من دائرة الحجية أصلا. وإذا فتح باب الحوار فإنما يفتح لإفحام الطرف الآخر وإلزامه بالتخلي عن قناعاته، وهو ما يؤدي إلى تكون عقلية إقصائية في رحم الأمة الإسلامية، وهذا خلافا لما كان عليه السلف من قبل من قبول الرأي الآخر وتمني أن يكون الحق على يديه، وقد قال الشافعي قديما : “ماجادلت يوما أحدا إلا وتمنيت أن يكون الحق على يديه”.
3- رفض التعايش الفكري السلمي في إطار الخطاب الاسلامي العام، لأن الانغلاق على الذات ورفض الرأي الآخر واعتباره خطأ لا يحتمل الصواب وبالتالي إخراجه من دائرة المجتهد فيه جعل التفكير في مجرد التقارب الفكري خيانة لله ورسوله ومداهنة مقيتة تتعارض وعقيدة الولاء والبراء.
وهذه الحواجز النفسية و غيرها كرست الفرقة الفكرية وجعلت الكلام عن الوحدة ضربا من الخيال، وأثمرت ردة فعل وتداعياتكانت لها ويلاتها على مسار الحركة الفكرية الإسلامية.
من تداعيات الفرقة الفكرية
> الاستبداد الفكري :
إن الحواجزالنفسية والفكرية المنبثقة عن النظرة الأحادية والمتحيزة في علم الفكر والمعرفة، تجعل البعض يعتقد أنه يدافع عن بيضة الإسلام وكيانه الذين لا مساومة فيهما ولا مداهنة، الأمر الذي يبرر له فرض اختياراته الفكرية على الآخرين من منطلق الالتزام الشرعي وحسن النية. ومثل هذا التصور يضع الحركة الفكرية أمام خطر التأسيس والتنظير للاستبداد الفكري الذي يعد قاعدة ومنطلق الاستبداد السياسي. ولقد سجل تاريخنا القديم والحديث نماذج من هذا الاستبداد الفكري الذي كان كثير منه بنية حسنة. فَفَرْضُ المعتزلة بزعامة بن أبي دؤاد القول بخلق القرآن بالقوة وتعذيب الإمام أحمد بن حنبل وغيره من الأعلام اللذين رفضوا هذا المذهب الكلامي بحجة أنه يمثل محض التوحيد مثل بوادر الاستبداد الفكري. والحصار الذي أوقعه بعض الحنابلة على أبي جعفر محمد بن جرير الطبري بحجة أنه لم يذكر الإمام أحمد بن حنبل في تعداد الفقهاء في كتابه “اختلاف الفقهاء” لأنه عدَّه من المحدثين وحبس هؤلاء الحنابلة له في بيته ثلاثة أيام إلى أ ن أخرجه تلامذته خفية(3) مثل كذلك نموذجاً للاستبداد الفكري، وكذا كلام ابن الجوزي الشامت في المعتزلة بعد قتلهم وصلبهم وتحريقهم بكتبهم التي ألفوها(4)، كل هذا وغيره يظهر مدى تمكن الاستبداد الفكري عندما يكون مفهوم الوحدة مفهوما مغلوطا.
> الفوضى الفكرية :
وهي أن لا ينطلق الباحث في إنتاجه الفكري من منهج بحث علمي موضوعي منضبط، بل يأتي كرد فعل لضغط معاكس أو استجابة لنزعة حب إثبات الذات عن طريق إقصاء الآخرين. فتراه ينقض اليوم ما أصله بالأمس، ويدافع في هذا البحث عما انتقده في بحث سابق. والسبب في ذلك كله ارتباط الباحث بالأشخاص أو المذهب الفقهي أو المدرسة الفكرية أو الفرقة الكلامية أكثر من ارتباطه بالأفكار ذاتها ومدى اقتناعه بمعقوليتها وصحتها. فيصير معتقد الفرد أن وجوده مرتبط بظهور مذهبه الفكري أو الفقهي، وظهوره مرتبط بأفول نجم غيره، فيصبح مبدأ النهوض على أنقاض الآخرين هو المنطق العلمي الذي يحكم إنتاجه الفكري.
> العزلة عن الواقع :
فالصراع الفكري وما يتبعه من الإغراق في مناقشات نظرية بحتة يبعد مفكري الأمة عن الواقع المراد تغييره، ذلك أن تغيير الواقع أو التأثير فيه لا يتأتى بالاكتفاء بمجرد الكلام عن أهمية التغيير وأساليبه.
مقتضيات التأسيس أو التنظير
للوحدة الفكرية بين المسلمين
إن مما يقتضيه التأسيس السليم للوحدة الفكرية بين المسلمين ضبط مفهوم الوحدة الفكرية بين المسلمين، وضع أسس منهجية كبرى لهذه الوحدة، ثم وضع آليات لتثبيت هذه الأسس المنهجية في الحركة الفكرية. ذلك أن ضبط مفهوم الوحدة الفكرية دون وضع أسس منهجية لتثبيته و آليات لتحقيقه، يكون ضربا من التناقض أوالتضليل للنفس.
< ضبط مفهوم الوحدة الفكرية
إذا قررنا أن وحدة الأمة الإسلامية مطلب شرعي أصيل حث عليه القرآن الكريم : في قوله تعالى : {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} (الأنبياء : 92)، وقوله : {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} (المؤمنون : 52)، وقوله تعالى : {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} (البقرة : 103) وقوله تعالى : {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} (البقرة : 105). وإذا قررنا أن اختلاف وجهات النظر أمر طبيعي يقتضيه تنوع مشارب الناس واستعداداتهم، وهو ما ذكره القرآن الكريم في أكثر من آية فقد قال الله تعالى : {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا} (يونس : 19) وقال أيضا : {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين} (هود : 118)، وقال أيضا : {ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم} (المائدة : 48).
فالتنوع الفكري والعرقي أمر مقبول، والوحدة التي دعا إليها القرآن الكريم لا تنفي التنوع الفكري، بل تباركه وهو ما يعني أن الوحدة الفكرية لا تعني الانصهار الكلي أو الاختفاء الكلي للفروقات، لأن هذا فهم يكذبه القرآن الكريم، ويدحضه التاريخ. فالاختلاف الفكري قديم قدم بعثة الأنبياء فهذا موسى عليه السلام اختلف مع أخيه هارون في كيفية خلفه في بني إسرائيل. وهذا رسول الله اختلف مع أصحابه يوم أحد، وكما اختلف الصحابة بعضهم مع بعض في قضايا لا تعد ولا تحصى، غير أنهم كانوا كما وصفهم النبي : كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.
فالحاصل من هذا الكلام أن الوحدة الفكرية المرجوة ليست اتفاقا حول مسائل جزئية وإن كانت مصيرية، وإنما هي اتفاق حول أسس منهجية كبرى للتفكير. ومن أهم هذهالاسس :
< الاستقلالية في التفكير
إن النظرة السطحية لهذا الأساس يوحي بوجود تناقض بينه وبين الهدف المرجو من هذه الورقة وهي :” الوحدة الفكرية للأمة الإسلامية”، ذلك أن الدعوة إلى إعمال الفكر وترك الجمود على القوالب الفكرية الانتمائية الجاهزة يفضي في نظر البعض على الأقل إلى ما يفضي إليه التعصب من فرقة وتمزق اجتماعي وفكري. والحقيقة أن الاستقلالية في التفكير هي العامل المؤسس للوحدة الفكرية، لأنها تجعل أهل الفكر يشتركون في مبادئ منهجية هامة ـ كالإنصاف، والانفتاح على إنتاج الآخرين، والروح النقدية ـ يفتقدها الفكر المنغلق على ذاته والمتعصب لقناعاته، ومن شأن هذا إذا أشيع أن يوجد توافقا في قواعد التفكير بين المفكرين. وليس معنى استقلالية التفكير مباركة التفكير المتحرر من المرجعية العقدية والضوابط الشرعية، لأن توجها كهذا يجعل المسألة إباحية فكرية لا تمت إلى الاسلام بصلة، وإنما معناه أنه إذا تحرك المفكر المسلم ضمن معالم التوحيد، وأعطى للنص الشرعي بعده المرجعي المقدس، وكانت لديه نية حسنة في الحفاظ على وحدة الأمة وهويتها، فلا ضير بعدها أن تختلف وجهات النظر، والطرائق الإجرائية في فروع الاجتهادات الفكرية، لأن هذا جزء من الطبيعة البشرية التي نوه بها القرآن الكريم. وعليه نتمثل مقولة رشيد رضا الذهبية التي قال فيها : “لنعمل فيما اتفقنا عليه وليعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه”.
< الإنصاف والموضوعية
إن المقصود بالإنصاف والموضوعية هو التعامل النزيه والمباشر مع حيثيات ومعطيات الموضوع المراد بحثه، وعدم الانطلاق في فحص ومعالجة الرؤى الفكرية المختلفة من قناعات مسبقة تخضع أفكار الآخرين إلى تفسير متحيز أحادي النظرة، لتخرج في الأخير بنتائج مقصودة تصل إلى مستوى التزوير الواعي أو غير الواعي لتلك الأفكار المنتقدة. في حين أن مبدأ الإنصاف من شأنهأن يوجد قاعدة مشتركة بين الباحثين ـ وهي التعامل الموضوعي مع معطيات البحث ـ لمعالجة الموضوعات المثارة.
ولا شك أن هذه القاعدة المشتركة لا تنفي الاختلاف، ولكن تؤطره وتجعله نسبيا سببه تفاوت المعطيات وتنوع زوايا التفكير، وليس الحواجز النفسية والفكرية المانعة لعملية التفكير من رسم الصورة الحقيقية والواقعية للموضوع المدروس.
لقد ضرب لنا تاريخنا الاسلامي نماذج فريدة للإنصاف والموضوعية جدير بكل باحث أن يمعن النظر فيها ويتخذه نموذجا للتعالي على الأنا والمذهب والتوجه والتأثيرات الواقعية. إننا لنشعر بنوع من الافتخار والشعور بأن سلفنا كانوا مستحضرين لقيم الإنصاف والموضوعية عندما نقرأ أن الإمام البخاري مثلا أو الإمام مسلم أو غيرهما رووا عمن سموا مبتدعة، ـ بل كانوا دعاة لها ـ واشتهروا بهذه التسمية من أمثال ثمامة بن الأشرس رأس معتزلة بغداد بعد بشر بن المعتمر وغيرهم كثير، كونهم استجمعوا شروط الرواية. يقول جمال الدين القاسمي في كتابه تاريخ الجهمية والمعطلة : “وقد اشتهرهذا (أعني أن من كان داعية إلى بدعته لم يخرجوا له) مع أن العراقي اعترض على ذلك بأن الشيخين احتجا بالدعاة، فاحتج البخاري بعمران بن قحطان الخارجي، واحتجا بعبد الله بن عبد الرحمان الحماني، كان داعية إلى الإرجاء، فأنى يستقيم مع ذلك دعوى هجران السلف لهم، وقطع الصحبة معهم، وهم قد حملوا من السنة مالم يوجد عند غيرهم، وأصبح مرويهم حجة دامغة أبد الآباد؟ (5) وأورد المقولة المشهورة لأحمد بن حنبل “لو تركنا الرواية عن القدرية لتركنا أكثر أهل البصرة. وأورد ذكر ابن حجر في مقدمة فتح الباري لعشرات الأسماء من الجهمية والقدرية والمعتزلة ممن روى لهما لبخاري ومسلم، وعلى رأسهم ثمامة بن الأشرس رأس معتزلة بغداد، كذلك نقل عن الذهبي في ميزان الاعتدال والتدريب شرح التقريب للسيوطي(6).
< الانفتاح على الميراث الفكري
لا شك أن التعصب للذات وعقلية إقصاء الآخرين تميت الفكر وتشيع الفرقة والاستبداد الفكري، والتاريخ الاسلامي سجل لنا نماذج من هذا ممن قد تم ذكر طرف منهم في مقدمة هذه الورقة، لذا كان الانفتاح على الميراث الفكري أساسا منهجيا يسهم في إرساء الوحدة المنشودة، فهو يمكن المفكر من استيعاب الرصيد الفكري لمختلف التوجهات والتيارات الفكرية الأمر الذي يوسع أفقه المعرفي، ويجعله يسلك في بحثه مسلك المقارنة بين الآراء المختلفة من ثم يهتدي إلى مكامن الضعف والقوة فيها، كما يحرره من التعصب الفكري والمذهبي الذي يعد اهم عامل من عوامل الفرقة الفكرية، ويجعله وهو ينظر إلى الحاضر والمستقبل يستحضر كل هذه التجارب والآراء وهو ما يضمن قدرا أكبر من التوفيق والاهتداء، لأن تعدد المصادر والتفتح على الجميع يكسب المرء العقلية التحليلية النقدية بفضل المقارنة بين الأطروحات الفكرية المختلفة، ويرسي تقاليد الحوار البناء الذي يفتق الأذهان، ويوسع الافق ويثري المعرفة ويكشف عن نقاط القوة والضعف في كل أطروحة فيتسع عقل المرء وقلبه لاتفاق الناس واختلافهم، فلا يحجر واسعا ولا يضيق صدره بمخالفيه ما دام رأيه يرتكز على دليل ناهض أو استدلال مقبول تقوم به الحجة، وهذا يجعل العالم أكثر انفتاحا وتسامحا وتقبلا لأراء الآخرين، ومن ثم يكون أكثر إنتاجا وأعمق نظرا. وهذا بخلاف التقوقع في توجه فكري أو مذهبي واحد، فإن من مساوئه إرساء العقلية التقليدية المبررة للموجود والمباركة له، وهو ما يكرس الرداءة والركود الفكري، ويكبح عقلية التلاقح المعرفي.
< إرساء العقلية النقدية
إن الانفتاح الواسع على مجمل التراث الفكري يعصم الباحث من التقديس غير الواعي للأفكار والرؤى، وإنما يجعله يراها آراء تحتمل الأخذ والرد، وتتطلب في كلا الامرين مقابلة الحجة بالحجة والاستدلال بالاستدلال، وهو ما يجبر العقل على أن يسلك في حركته الفكرية المعرفية مسلك النقد والتمحيص، ومتابعة جذور المسائل ومبرراتها التاريخية والمنهجية، وهذا عامل رئيس في عملية الترشيد الفكري والارتقاء في مستوى البحث، لأنه يقتضي من الباحثين مراجعة مستديمة لأنتاجهم الفكري، وحرص متواصل على تطوير هذا الفكر، لأن معنى الفكر كما يذكر أهل الصنعة ما هو إلا : “ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى المجهول” (7). وأنه : “مايكون عند إجماع الإنسان أن ينتقل من أمور حاضرة في ذهنه إلى أمور غير حاضرة فيه، وهذا الانتقال لا يخلو من ترتيب” (8), وهذا يقتضي من غير شك تطويرا مستمرا.
آليات تثبيت هذه الأسس المنهجية
في الحركة الفكرية
إن الكلام عن الأسس المنهجية للوحدة الفكرية يقتضي منا وضع آليات لتثبيت هذه الأسس وضمان حسن إعمالها، ولعل من أهم هذه الآليات :
< المزاوجة بين الإعداد الثقافي والتخصصي في مناهج التربية والتعليم :
إن من خصائص العقلية الاستقلالية النقدية المتفتحة المرشحة لتأسيس وترشيد الوحدة الفكرية، التلاقح المعرفي بين مختلف العلوم والمعارف، والعدول عن التخصص المتقوقع في فرع من فروعها. ذلك أن التخصصات الفرعية في أي نوع من أنواع العلوم مهما بلغ الاجتهاد فيها من مبلغ لا ينتج على المستوى العلمي والمعرفي إبداعات كثيرة، بخلاف التجاوز الجزئي للتخصص الفرعي والتمكن أو التفتح -على الأقل- على سائر التخصصات الفرعية الأخرى التي تندرج ضمن نوع واحد من أنواع العلوم، والتلاقح المعرفي بينها، فإنه يضمن التواصل العلمي بين إطارات الحركة الفكرية، ومن ثم يضمن التوافق على الأسس المنهجية للوحدة الفكرية. من هنا كان الاهتمام بالإعداد الثقافي -الذي يخرج الدارس من سجن فرع التخصص- بجانب الإعداد التخصصي من أهم آليات تثبيت الأسس المنهجية للوحدة الفكرية بين المسلمين.
< إحياء مبدأ الاجتهاد والتجديد :
من أعظم ما يفتح آفاق الإبداع على جميع مستويات الفكر، ويضمن بعد ضمان الله تعالى أعظم قدر من التقارب الفكري الذي هو مفتاح الوحدة الفكرية جعل العقلية الاجتهادية التجديدية جزء لا يتجزأ من الثقافة الإسلامية، وتدريس مثل هذه المباحث في المراحل المبكرة من التعليم التخصصي، لأن بث روح الاجتهاد في قلوب الباحثين والمثقفين، وتعريفهم بمراتب اليقين يورث في قلوبهم احترام المجتهدين، ويحفزهم على التشبه بهم في علو همتهم، وإبداعاتهم، وذلك بالسعي الحثيث على الإبداع المماثل. لأنه ما قتل الروح الإبداعية وأطفأ في قلوب الباحثين جذوة الاجتهاد إلا مقولات قاتلة للعلم والإبداع من مثل مقولة : “ما ترك الأول للآخر شيئا” التي قال ابن عبد البر ليس أضر على العلم منها، وكذلك مقولة: “ليس بالإمكان أبدع مما كان” فهذه المقولات وغيرها تكرس الموجود وتمنع من إيجاد روح الإبداع الفكري، الذي يمثل جسر الوحدة الفكرية للأمة الإسلامية، لأنه يورث في قلب الباحث احترام رأي الغير واستثماره بدل هجره والحط منه.
< نقل إشكالية الأسس المنهجية من مستوى الأفراد إلى مستوى المؤسسات :
من ضمانات نجاح مشروع الوحدة الفكرية بين المسلمين نقل إشكالية الأسس المنهجية لهذه الوحدة من مستوى الأفراد إلى مستوى المؤسسات، بحيث لا تبقى مجرد اهتمامات فردية، بل مشروع مؤسسات علمية هدفها ليس فقط التنظير لهذه الأسس، بل تجاوز مرحلة الجدل النظري حولها إلى مرحلة تفعليلها على مستوى الممارسة واختبارها بشكل دقيق ومنظم في الإطار الأكاديمي والعملي.
خاتمة
في ختام هذه الورقة أود أن أذكر نفسي وإخواني الحاضرين بأن رباط عقيدتنا التوحيد، ونبل أهدافنا هو خدمة الإسلام ورفع رايته، وشرف غايتنا وهي إرضاء الله تعالى أمور تيسر مهمتنا في المساهمة الفعالة في لَمّ شمل هذه الأمة، وتوحيد فكرها وصفهاعلى بصيرة من الأمر مصداقا لقوله تعالى : {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}(يوسف : 108)، وهي بصيرة تستوعب مفهوم الوحدة الذي لا يلغي الفروق الفردية ولا حرية الاجتهاد، ولا يمنع الاختلاف في وجهات النظر. كما تستوعب الأسس المنهجية التي تضمن حسن تجسيد هذا المفهوم وهي : استقلالية الفكر، والأنصاف والموضوعية، والانفتاح على الميراث الفكري، وإرساء العقلية النقدية، كما تستوعب أيضا الآليات التي تثبت هذه الأسس المنهجية وهي : المزاوجة بين الإعداد الثقافي والتخصصي في مناهج التربية والتعليم، وإحياء مبدأ الاجتهاد والتجديد، ونقل إشكالية الأسس المنهجية للوحدة الفكرية من مستوى الأفراد إلى مستوى المؤسسات. فإذا استجمعنا حلقات هذه المنظومة الثلاثية : (المفهوم والأسس والآليات) نكون قد خطونا خطوة جادة على الطريق الصحيح للوحدة الفكريةبين المسلمين.
والله الهادي إلى سواء السبيل
………………………………….
(ü) قدمت هذه الورقة في مؤتمر : وحدة الأمة الإسلامية : فرص وتحديات 1- 2 أكتوبر 2003 بماليزيا.
(üü) الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا
1- انظر عماد الدين خليل : “دور الإصلاح العقدي في النهضة الإسلامية” سلسلة المستلات العربية مركز البحوث : الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا . البحث رقم 7، ص 75
2- أنظر بحث صلاح الدين أرقه دان : “مفهوم الوحدة الإسلامية” ضمن أبحاث مستجدات الفكر الإسلامي والمستقبل (الكويت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1992م)، ص 112، بحث محسن الشيشكلي : مسألة الوحدة والعلاقات بين الدول الإسلامية، ص 173، ضمن كتاب الإسلام والمستقبل، (الكويت : اللجنة التحضيرية العليا لمؤتمر القمة الإسلامية الخامس، 1987م)
3- أنظر: ابن جرير الطبري: اختلاف الفقهاء، مقدمة الكتاب (بيروت: دار الكتب العلمية، غ، م).
4- قال ابن الجوزي الذي تكلم عن الفتنة التي وقعت بالمعتزلة والفلاسفة والروافض سنة 420هـ : “وحولت من الكتب خمسين حملا ما خلا كتب المعتزلة والفلاسفة والروافض فإنها أحرقت تحت جذوع المصلوبين إذ كانت أصول البدع، فخلت البقعة من دعاة الباطنية وأعيان المعتزلة والروافض، وانتصرت السنة، فطالع العبد بحقيقة ما يسره الله تعالى لأنصار الدولة القاهرة : ‘المنتظم من تاريخ الأمم، دراسة وتحقيق، محمد عبد القادر عطا، ومصطفى عبد القادر عطا (بيروت ؛ دار الكتب العلمية، ط 1، 1992م)، ج 15، ص 125- 126، 195- 197.
5- القاسمي، جمال الدين : تاريخ الجهمية والمعطلة (بيروت، مؤسسة الرسالة، ط 3، 1985م)، ص 79.
6- انظر المرجع نفسه، ص 75- 79.
7- الجرجاني، علي بن محمد بن علي : التعريفات : تحقيق ؛ إبراهيم الأبياري (بيروت ؛ دار الريان، غ.م)، ص 217.
8- ابن سينا، أبو علي الحسين : الإشارات والتنيبهات (مصر : دار المعارف، ط 1960م)، ص 169- 171.
ذة. حليمة بوكروشة