… إن ما وقع لفرنسا في الآونة الأخيرة فيما سمي “بحرب الحجاب الإسلامي” شبيه إلى حد ما بما وقع للمرأة التي حكى عنها القرآن الكريم {والتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا}. فكل ما كسبته الحكومة الفرنسية من تقدير واحترام لقاء مواقفها الشجاعة في نصرة بعض القضايا العربية والإسلامية ووقوفها في وجه العولمة الأمريكية واحتلال العراق. كل ذلك يبدو أنه يتبخر ويذهب أدراج الرياح بسبب حماقة سياسية وقرار غير مدروس بالشكل الكافي.
هكذا وبدون سابق إنذار ولا مسببات قرر الرئيس شيراك ـ الذي يكن له الجميع الاحترام والتقديرـ منع الفتيات المحجبات من ولوج المدارس والمؤسسات الحكومية، على اعتبار أن الحجاب مثله مثل باقي الرموز الدينية الأخرى يهدد العلمانية الفرنسية!
وكنت شخصيا أربأ بالرئيس شيراك وهو المثقف والسياسي المحنك أن يصل في أواخر أيامه إلى استنتاج سطحي كهذا؛ فمتى كانت قطعة قماش حريري ناعم تهدد وتزعزع عقيدة فلسفية تأسست منذ أزيد من قرنين من الزمن ولها مفكروها ومؤسساتها وركام هائل من الكتب والمناهج؟
إن القرار الفرنسي يوقع أصحابه في كثير من الحرج لأنه يتعارض تعارضا صريحا مع مبادئ العلمانية التي يؤمن بها الفرنسيون وغيرهم من المتفرنسين عندنا إيمان العجائز الذي لا تزحزحه الرياح العاتية وذلك للأسباب التالية :
- من أبجديات العلمانية كما عُلِّمناها أنها تدعو لفصل الدين عن الدولة؛ أي أن تترك ما لقيصر لقيصر وما لله فهو لله.
فلا دخل للدولة ومؤسساتها بالأمور الدينية لا رموزا ولا شعائرا، ولا تتدخل في معتقداتهم وما يلبسون أو يدخرون في بيوتهم.
فحرية التدين والاعتقاد متروكة للأفراد. ولهم أن يختاروا ما شاؤوا من المعتقدات.
- إن منع الحجاب والمظاهر الدينية تتعارض أيضا مع أبرز وأهم حريتين جاءت بهما مواثيق العلمانية وحقوق الإنسان كما هو متعارف عليهما كونيا.
> الحرية الدينية
> الحرية الفردية
فمنع المسلمات من ارتداء الحجاب هو اعتداء صارخ على كلتا الحريتين، اللهم إذا كان للرئيس شيراك تحليل آخر يرى أن الحجاب الاسلامي ينزع صفة الانسانية عن كل من ترتديه.
- إن منع الحجاب الإسلامي من شأنه أن يحرم مئات بل آلاف الفتيات والنساء المسلمات حتى الفرنسيات منهن من حقهن في التعلم والشغل، وهذا فيه تجني كبير جدا على حق من أبرز حقوق المرأة في الكرامة والرقي، وما فتئت فرنسا وغير فرنسا وأزلامها في بلاد العرب والمسلمين ينادون بتحرير المرأة والرفع من مستواها العلمي والثقافي والاجتماعي والسياسي، وقد أقاموا من أجل ذلك المؤتمرات والمنتديات، وينفقون من أجل ذلك بسخاء إنفاق من لا يخشى الفقر. فأي كرامة تبقى لامرأة بعد حرمانها من أبسط حقوقها في طلب العلم والحياة الكريمة من خلال وظيفة محترمة.
أم أن حرية المرأة عند الحكومة الفرنسية وغيرها من الحكومات الغربية وحتى بعض الحكومات العربية تنحصر في عرض جسدها عارية في واجهات المحلات كأي بضاعة فاسدة.
أو استغلال أنوثتها في وصلات الاشهار وتسويق السلع وأفلام الخلاعة وبرامج الدعارة الرخيصة.
وبعد، فإن ما أقدمت عليه الحكومة الفرنسية لن يجلب لها إلا مزيدا من الحرج والعنث وقد بدأت بوادر ذلك تلوح في الآفاق وما المعارضة الشديدة للعديد من الشخصيات الفرنسية المرموقة والمتزنة إلا بدايات القطر، فقد كتب الوزير البريطاني “روبين كوك” مقالا مطولا على موقع “اسلام أون لاين” يسخر من القرار الفرنسي المتسرع.
كما انتقد الدكتورRovanWilliams وهو رئيس أساقفة “كانتروبري” وهي أشهر كنيسة في بريطانيا ولها أزيد من 70 مليون من الأتباع عبر العالم، انتقد بشدة مع خطبة عيد الميلاد المسيحي قرار الحكومة الفرنسية الأخير في منع المظاهر الدينية مضيفا في هذا الصدد أن القرار جاء في “مناخ علماني ينظر إلى الدين ليس فقط بتشكك أو قلة فهم وإنما أيضا بخوف”.
كما عبر عدد من أقطاب ومفكري اللجنة الوطنية الاستشارية لحقوق الانسان بفرنسا (CNCDH) عن تخوفهم من أن قرار منع الحجاب قد تكون له عواقب سلبية.
هذا بالإضافة إلى عدد من المظاهرات الشبه يومية التي تجوب كبريات العواصم الغربية معبرة عن استنكارها للقرار الفرنسي وقد ضربت هذه المظاهرات يوم 17 يناير كموعد ليوم عالمي للتضامن مع الحجاب الإسلامي كما دعت إلى ذلك لجنة الافتاء والبحوث الأوروبي برئاسة فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله تعالى.
وأخيرا وليس آخرا. إن قرار منع الحجاب من المدارس والمؤسسات الحكومية الفرنسية سوف تتبعه قرارات أخرى أكثر جورا واعتداءا وامتهانا للمسلمين في بلاد الغرب ما لم تقم الحكومات الاسلامية ممتلة في مؤسساتها ومنتدياتها الثقافية والعلمية وجمعياتها الاسلامية والدعوية وقفة رجل واحد للحيلولة دون مزيد من إذلال المسلمين والاستخفاف بمقدساتهم ومعتقداتهم، ومحاولة سلخهم عن هويتهم الاسلامية ومبادئهم وقيمهم الخالدة بحجة إدماجهم في المجتمعات التي يعيشون فيها فالإدماج لا يعني سلخ الأشخاص من معتقداتهم وإبدالهم جلودا غير جلودهم فإذاك لن يستفيد أحد من إدماجهم بل على العكس من ذلك سيصبحون عالة ووبالا على الوسط المراد إدماجهم فيه كما يحصل الآن مع أبناء الجاليات المسلمة في بلاد الغرب الذين شوهوا فصاروا خلقا آخر لا هم عرب ومسلمون ولا هم غربيون، منزلة بين المنزلتين ضررهم أكبر من نفعهم والزائر لسجون الغرب واصلاحياته وحاراته المهمشة ليذهل عندما يلاحظ أن أغلب روادها وزوارها من هؤلاء الشباب الممسوخ عقيدة وفكرا وسلوكا…
أما آن لمفكري الغرب وحكمائه أن يستفيدوا من الأخطاء التي ارتكبوها في حق أجيال من شباب المسلمين والعرب إذ سلخوهم عن عقيدتهم وحضارتهم ونمط تفكيرهم بعدما استغلوا آباءهم وأجدادهم من قبل ورموهم عظاما نخرة بعدما أكلوهم لحما غضا طريا لمدة تزيد عن نصف قرن من الزمن.
وهذه هي النتيجة!!
شباب تائه وطاقات معطلة تفسد في البلاد أكثر مما تصلح.
إن الإدماج أيها الأفاضل لا يعني السلخ والمسخ، إنما الإدماج الحقيقي هو العمل على ضم الآخر وتقريبه مع الحفاظ على خصوصياته لإثراء المجتمع والاستفادة من تنوع خصوصيات أفراده، كل طرف يضيف جديدا للمجتمع فيتكافل ويعيش في وحدة وانسجام.
فهكذا يكون الإدماج الحقيقي، أما ما شهدناه ونشاهده لحد الساعة من مآسي ومطبات فليس إدماجا وإنما مسخا وتشويها.
وما لم يتنبه قادة الغرب ومفكروه وحكماؤه إلى هذا الأمر فلن يحصدوا إلا مزيدا من الانحراف والاضطراب والفوضى الاجتماعية والسياسية والسلوكية.
وما أقدمت عليه الحكومة الفرنسية مؤخرا ومن المحتمل أن تتبعها دول غربية أخرى يدخل في هذا الإطار ولا حول ولا قوة إلا بالله رب العالمين.