قال صاحبي وهو يلوح بجريدة المحجة: لقد قرأت كلمتك عن دور المجالس العلمية في نشر الكلمة الطيبة وتقوية الوازع الخلقي لحماية الأفراد والجماعات من الانحراف والجنوح، وترسيخ قيم الأمن والسلام في البلاد، لتنصرف إلى البناء والتشييد، وتخطط للتنمية التي تحقق الرخاء وترقى بمستوى العيش، وتحرر الإنسان من شبح الفقر والمرض والجهل، فهل يمكن تحقيق ذلك مع ما غدا مستشريا في النفوس من أمراض تفوق أمراض الأجسام بكثير، بل تهددها بالدمار والخراب، فما السبيل إلى سد الفراغ الذي تعاني منه مختلف الشرائح الاجتماعية؟ وكيف؟
قلت: أما هذا فمسؤولية جماعية، تتطلب تضافر جهود جميع الفاعلين في مختلف المجالات، من أفراد وجماعات، وجمعيات وهيئات، مركزيا وجهويا، فهذه الجهات جميعها لا يمكنها أن تكتسب قيمتها إلا بما تحققه من نتائج إيجابية في خدمة الجهة التي تنتمي إليها أولا، ولا تقوى فاعليتها إلا بمدى تواصلها مع مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية، فإذا انفتحت على محيطها، وعرفت حاجات الناس وتأملت واقعهم، فإنها قد تستطيع تحقيق الكثير مما يعود على الجميع بالخير والبركة، إذا توافرت لها الشروط وتحددت الأهداف، وصدقت النيات، وعم التشبع بالروح الوطنية السامية التي تعتمد الإيثار، وتقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
وأما كيف تستطيع كل جهة أن تساهم بنصيبها في سد بعض الفراغ، فهذا أمر متوقف على مدى وعيها بوظيفتها، ومدى مرونتها في استقطاب الناس، وقدرتها على التواصل معهم، ومعرفة حاجاتهم، وتفهم مشاكلهم الدينية والدنيوية، و سعيها إلى إذابة الجليد بينها وبين شباب الأمة الذي غدا عرضة لمجموعة من الإكراهات وما يرتبط بها من تحديات تتجدد باستمرار فـتزيد أحوالهم صعوبة وتعقيدا، ويعيشون مفارقات لا نهاية لها، لأنهم ينظرون إلى واقعهم وعلاقاتهم وما يجمع بينهم وبين محيطهم الكبير والصغير فلا يجدون إلا شروخا تزداد عمقا مع توالي الأيام، ويستشعرون فراغا روحيا رهيبا يملأ كيانهم إحساسا بالاغتراب، وتختلط عليهم الأمور وتضطرب الموازين وتتخلخل المقاييس، وتنفلت القيم في خضم المفارقات التي تزعزع ثقتهم في القيم التي غدت مجرد وهم باهت، وهم يعايشون تهافتا على ما هو زائل، وتكالبا على الماديات بأي وسيلة، ويصطدمون دائما بالتناقض الصارخ بين الخطاب والفعل، وبين الشعار والسلوك، وبين الوعد والإنجاز، وبين المبدإ والسلوك، فما العمل؟ وما هو الحل؟
الواقع أن الفراغ غول كبير ومتوحش، وأقصد الفراغ الروحي، لأنه هو منبع المشاكل، ورأس الفتن، والدافع إلى الهلاك، والمهيء للضياع، والباعث على التمرد، والحافز على الانحراف، والمغري بالموبقات، والمشجع على الفساد، والمهون من العواقب، والمشجع على الدمار، والمزين للشهوات، والمستصغر للكبائر، والمحسن للخبائث، يبعث القلق في النفوس، وينزع الاطمئنان من القلوب، ويزرع الشك، ويبعث الوساوس والشكوك والأوهام، ويضعف حب الوطن ومقدساته في النفوس، ويضعف الأمل والرجاء فيها.
فما العلاج؟ وهل يمكن تدارك الأمر قبل فوات الأوان؟ وهل من دواء ينقد الأفراد والجماعات من المهالك المحدقة بها، المهددة بكل سوء؟
من المؤكد أنه لا علاج لهذه الآفة التي استفحلت في مجتمعاتنا بدافع من أسباب شتى، منها المحلي، ومنها الطارئ، إلا دواء واحد، يعد بلسما ناجعا لهذه العلة التي تزايدت وتيرة استفحالها فغدت مهددة للبلاد والعباد، ومثيرة للدهشة في أمة تملك من الوقاية ما يحول بينها وبين أي خطر يهددها من هذا النوع القاتل المدمر للمناعة في النفوس، إنه الإيمان، فهو الباعث على الحياء وما يرتبط به من قيم نبيلة، وأخلاق سامية، وهو الواقي من كل آفة، مصداقا لقوله تعالى، وهو أصدق القائلين:
” ألا بذكر الله تطمئن القلوب”.