قد يقول قائل إن السفر والترحال من طبيعة البشر، كما أن الرحلة من مكان لآخر نزعة إنسانية، تتيح الفرص للتواصل والتعارف، ويرى بعض الناس أن الهجرة بصفة عامة، وضمنها تدخل الهجرة إلى الغرب، أو ما يسمى بالتغريب، تعد مجالا للتلاقح الحضاري، وتبادل الأفكار، والوقوف على خبرات الآخرين، والاستفادة من تجاربهم، بما لذلك من انعكاسات متعددة ومتنوعة، لأن الحضارات لا تبنى إلا بتلاقح التجارب والخبرات المتنوعة وانصهارها في بوتقة معينة تجعلها متميزة في عطائها وإنتاجها، وهذاأمر معقول ومنطقي لو أن الأمر كان يتم في ظروف طبيعية واختيارات تلقائية عن طواعية، دون أن تتدخل ظروف قاهرة وعوامل خارجية أوداخلية تجعل الإقدام على اتخاذ القرار وكأنه اضطراري.
وهذا ما يدفع إلى إثارة التساؤلات المتوالية المؤرقة عن ملابسات هذا الموضوع الذي لا يقتصر على دولة شرقية واحدة، بل يكاد يكون عاما في معظم دول المشرق العربي والعالم الإسلامي، بل وما يسمى بالعالم الثالث الذي يسوده التخلف، ويعاني من تزايد ارتفاع نسبة البطالة بين شبابه، وفي مقدمتهم خريجو الجامعات في أوطانهم، أومن خريجي الجامعات الغربية الذين يعانون شيئا من الإحباط، ويتصورون أنه لا عمل لهم في أوطانهم، أو يوحى إليهم بذلك بطريقة أو بأخرى لتشجيع هجرة هذه الفئة المتنورة من الشباب الذين يعول عليهم في بناء مستقبل أوطانهم، كما تعطل قدرات فئات أخرى لم تسعفها الفرص للمساهمة في البناء والتشييد تحت وطأة إكراهات متداخلة وحادة.
ولذلك فالتساؤلات التي تثار مركبة ومعقدة إلى درجة كبيرة، يتداخل فيها ما هو إنساني، بما هو مادي، فمن المستفيد من هذا التلاقح الحضاري؟ أو بعبارة أخرى: ما هي درجة الاستفادة عند كل طرف؟ وما طبيعة هذه الاستفادة؟ وما مستوى انعكاساتها على هذا الطرف أو ذاك؟ وهذا يتطلب درجة خاصة من الوعي لدى العقول المهاجرة التي لا تعفى من المسؤولية في هذا الأمر مهما كانت الحيثيات والأسباب المباشرة وغير المباشرة.
وحين ندخل في الحساب ما تصرفه الأسرة وما تصرفه الدولة على ابنها أو ابنتها من أجل تربيته وتعليمه وتكوينه، يصبح السؤال كما يلي: من الرابح ومن الخاسر؟ وأما حين تتدخل العواطف الأسرية، و يقوى التعلق الأبوي أو الأخوي، وتتقد عاطفة الأمومة فالمجال لا حدود له، لأن تفرق الأسرة له وقع آخر على كيانها وعلاقاتها، يمكن تحمله إن كان مؤقتا، ويصعب قبوله إن امتد لسنوات، أو إن تم التيقن من انعدام الأمل في رجوع المهاجر إلى وطنه وأهله وعشيرته.
وأما حين يضاف إلى هجرة الأدمغة هجرة أو تهجير للأموال فالخسارة تصبح أفدح، ويغدو الحديث عن كل تنمية أو تقدم في بلد يحرم من خيرة شبابه، ويسلب قدرا من خيراته غير ذي جدوى، وهذا موضوع آخر، يحتاج إلى وقفة خاصة.